في جميع المجتمعات المعاصرة، تطرح مسألة التنمية كضرورة متعددة الأبعاد. حيث تأتي الصحة، التعليم، التشغيل، والسكن… من الأولويات التي تشكّل العمود الفقري لأي مشروع وطني. غير أن التجارب الدولية تُظهر أن التقدّم لا يقتصر على المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل إن المجتمعات التي استطاعت أن ترتقي إلى مصافّ الدول المتقدمة هي تلك التي أدركت أن الحيوية الثقافية والفنية والرياضية جزء لا يتجزأ من مسارها التنموي. ذلك لأن مفهوم التنمية لم يعد اليوم محصوراً في بعدها الاقتصادي أو الاجتماعي، بل أصبح ظاهرة مركبة تقوم على إحداث دينامية تطورية تشمل مختلف مجالات المجتمع.
إن التاريخ يزخر بأمثلة عديدة، تخبر بأنه حتى في أوقات الأزمات العميقة، لم تتخلَّ بعض الدول عن تنظيم المهرجانات أو التظاهرات الرياضية أو الأنشطة الفنية. ولم يكن ذلك للتسلية أو الترفيه، بل لأنها أمور تُغذّي التماسك الاجتماعي، وتُنعش الأمل الجماعي، وتُسهم في بناء الهوية الوطنية. ومن ثمّ فإن التنمية الحقيقية لا يمكن أن تُختزل في منطق الأرقام، بل يجب أن تُتصوَّر كمشروع شمولي متكامل يتمحور حول الإنسان بكل تجلياته.
في السياق المغربي، من الواضح أن بلادنا مطالَبة بمواصلة تحسين منظومتها الصحية، وتحديث نظامها التعليمي، وملاءمة سياسات التشغيل مع متطلبات سوق عمل متسارع التحول. وهذه أولويات بديهية لا ينكر أحد إلحاحيتها. لكن من الخطأ أن تُقابَل هذه الضروريات بالانتقاص من حاجة المغرب إلى أن يظل حيّاً، فرحاً، ومبدعاً.
إن حصر النقاش في شعارات مثل: “أوقفوا الـTGV”، أو “لا لموازين”، أو “لا للملاعب”، تحت ذريعة أولوية التحديات الاجتماعية، هو قراءة سطحية. فوجود مجتمع مزدهر لا يُقاس فقط بالتغطية الصحية الشاملة أو بانخفاض معدلات البطالة، بل كذلك بقدرته على إنتاج المعنى، والفن، والروابط، والفرح. فالمجتمع الذي يتوقف عن الغناء، عن الإبداع، عن الاحتفال، هو مجتمع يفقِد روحه حتى وإن تحسّنت مؤشرات اقتصاده.
لقد أولى المغرب لعقود طويلة الأولوية للبعد الاقتصادي على حساب الاجتماعي. غير أن مطلع الألفية الثالثة شهد بداية تحوّل مهم، حيث أصبحت المسألة الاجتماعية في صدارة الأجندة السياسية للدولة. إذ تم الانخراط في العديد من البرامج الاجتماعية، غايتها محاربة الفقر، تعميم الحماية الاجتماعية، توسيع الولوج إلى الخدمات الأساسية، وكلها شواهد على هذا التحوّل. نعم لا يمكن القول بأن كل شيء قد تحقق، بل يمكم الجزم أن دينامية حقيقية قد انطلقت.
في هذا الإطار، فإن المطالبة بمزيد من الإصلاحات أمر مشروع بل وضروري. غير أن هذه المطالب لا ينبغي أن تُواجَه بالمنع أو القمع، لأن المجتمعات تُبنى بالحوار، والدول تتطور بقدر ما تستجيب لمطالب شعوبها، خاصة إذا كانت مطالب مشروعة. ومع ذلك، فإن هذه المطالب لا ينبغي أن تُختزل في خطاب يتأسس على تجريم الدولة أو ينفي جميع المكتسبات المحققة، فالتقدّم عملية متواصلة تُغذّيها الإرادة الجماعية في تحسين وتطوير المكتسب، لا في تغييب أو إنكار المنجز.
وهنا لا بد من التوقف عند أزمة الفعل الحزبي التي تُلقي بظلالها على المشهد السياسي المغربي. حيث أدى قصور الأدوار الحزبية إلى تراجع ثقة الشباب في العمل السياسي المنظّم، وإلى حالة انفصال واضحة بين الشباب والسياسة. ذلك أن غياب أحزاب قوية قادرة على تجديد خطابها وآليات اشتغالها من أجل استيعاب تطلعات الشباب، من بين أبرز الأسباب التي جعلت جزء كبيرا منهم يخرج إلى الشارع للتعبير عن مطالبه، فهو لا يرى في الأحزاب السياسية حاملا او معبرا عنها.
إن زمن اليوم، هو زمن الشباب، فهم القوة الدافعة نحو التغيير، والضامن لأي مشروع وطني يروم العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة. وعليه فإن تعزيز مشاركة الشباب في السياسة لم يعد خياراً، بل شرطاً ضرورياً لتجديد الثقة وترسيخ الديمقراطية، وهو ما لا يمكن إدراكه إلا من خلال تأهيل الوسائط السياسية بالبلد.
ختاما، وهذا أمر جوهري في تقديري، إن تجويد الخدمات الاجتماعية، لا يمكن أن يكون مقابلا ونقيضا للنهوض بأوضاع مختلف المجالات، من ثقافة وفن ورياضة، فهذه المجالات ليست “ترفاً” كما يحاول البعض تصوير ذلك، بل إنها من أهم محركات التماسك والإبداع في المجتمع، حيث تمنحه القدرة على التنفس، وعلى الحلم، والأهم على الاستمرار.