ناجي: قراءة في مشروع القانون 59.24 المتعلق بالتعليم العالي الجزء الثالث والأخير.. مشروع يخلط بين رؤى متنافرة

ناجي: قراءة في مشروع القانون 59.24 المتعلق بالتعليم العالي الجزء الثالث والأخير.. مشروع يخلط بين رؤى متنافرة عبد الناصر ناجي
في الجزء الأول من هذا المقال والذي خصصناه للمقارنة مع القانون الإطار، خلصنا إلى أن مشروع القانون 59.24 هو مشروع إصلاحي طموح من حيث الهيكلة الإدارية والمهام البحثية، لكنه يعاني من قصور عميق على مستوى الفلسفة الناظمة والمقاربة الإصلاحية. فهو يركز على "الوعاء" ويغفل "المحتوى" عندما يهتم مثلا بإنشاء الأقطاب والهياكل لكنه يهمل آليات إصلاح المناهج ونظام التقييم، والإشهاد. وهو يعالج الأعراض ويترك الأسباب عندما يحاول تحسين الأداء دون معالجة السبب الجذري، وهو نظام تدبير الموارد البشرية غير المرتبط بالأداء المؤسساتي وغياب التكوين البيداغوجي الأساسي. وهو يعلن اللامركزية ويرسخ المركزية من خلال إهمال البعد الترابي وتعزيز وصاية مجلس الأمناء. وهو يتغنى بالجودة ويغفل أدواتها الأساسية بعدم اشتراط التكوين الأساس وإهمال البعد التشاركي.
 
وفي الجزء الثاني الذي خصصناه للمقارنة مع القانون الحالي 01.00، خلصنا إلى أننا أمام مشروع ترميمي جديد يحمل جينات القانون القديم، بحيث يراهن على الاستمرارية على مستوى الجوهر، وعلى القطيعة على مستوى الشكل لكن فقط في بعض مواده. إنه يشبه عملية تجميل للمنظومة الحالية للتعليم العالي والبحث العلمي أكثر منه عملية جراحية شاملة لإصلاحه. فهو يضيف طابقاً جديداً يتجلى في باب البحث العلمي على أساسات قديمة ومتصدعة تحتاج إلى الكثير من التغيير، وخاصة النموذج البيداغوجي وتدبير الكفاءات. وبدون معالجة هذه الأساسات، فإن خطر عدم استقرار المبنى الجديد يبقى قائماً.
 
في الجزء الثالث والأخير من هذا المقال نحاول القيام بمقارنة نموذج التعليم العالي والبحث العلمي الذي بني عليه مشروع القانون 59.24 مع النماذج الدولية المعروفة، بهدف استكشاف ملامح النموذج المغربي الذي يستند إليه مشروع القانون الجديد، والفلسفة التي يرتكز عليها والاختيارات والتوجهات الكبرى التي تحكم الرؤية التي يحملها.
 
يصنف خبراء التعليم العالي النماذج العالمية إلى عدة أنماط أساسية، كل منها يقوم على فلسفة وغايات وأدوات مختلفة جوهرياً. نبدأ أولا بالنموذج الفرنسي المفرط في المركزية لأنه عادة ما يشكل مرجعية أساسية للقوانين المغربية بحكم العلاقات التاريخية بين البلدين. هذا النموذج الذي تعود جذوره إلى عهد نابوليون يبني فلسفته على اعتبار الجامعة أداة لخدمة الدولة وتوحيد الهوية الوطنية، وأن غايتها الأساسية هي إعداد النخب الإدارية والعلمية، ولتحقيقها يتوسل بأدوات فعالة تستند إلى مركزية صارمة، وتوحيد المناهج والشهادات، وهيمنة الوزارة الوصية على القرارات الاستراتيجية للجامعة. كان متوقعا حضور النموذج الفرنسي بشكل قوي في مشروع القانون 59.24 وقد تجلى ذلك أساسا في هيمنة التعيين الحكومي على هياكل الحكامة الجامعية، وإحداث الجامعات بقانون والمؤسسات الجامعية بمرسوم، وتبني مفهوم الأقطاب الجامعية، واستمرار تشرذم منظومة التعليم العالي.
 
ثانيا، النموذج الأنجلوسكسوني المبني على ثنائية السوق والمنافسة والذي بنى فلسفته على كون الجامعة منظمة تتنافس في سوق المعرفة والخدمات، وجعل غايتها تلبية حاجات سوق الشغل، وجذب الطلبة، والتميز في البحث الممول من القطاع الخاص، ولتحقيق هذه الغايات فإنه يعتمد على عدة أدوات أهمها منح استقلالية كبيرة للجامعة، وفرض رسوم دراسية، وتنظيم تصنيفات تنافسية، والتركيز على رضا الطالب باعتباره زبونا يستفيد من خدمات جامعية. ورغم تناقضه مع النموذج الأول فإن هذا النموذج الثاني وجد صدى قويا له في مشروع القانون الجديد تمثل أساسا في التوسع الملاحظ في خيارات التعليم الخاص والأجنبي، وتشجيع الجامعات على البحث عن موارد ذاتية عبر المساهمة في المقاولات وإحداثها، وإنشاء مدن الابتكار، وتشجيع الطلبة على الاقتراض البنكي، وتشجيع الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص.
 
ثالثا، النموذج الألماني المبني على الحرية الأكاديمية، والذي تعتمد فلسفته على اعتبار الجامعة "جماعة علماء" هدفها البحث عن الحقيقة وتعزيز المعرفة لذاتها، وعلى أن غايتها هي تطوير العلوم والتنوير المجتمعي، ولبلوغها تتوخى مجموعة من الأدوات لعل أهمها منح حرية أكاديمية مطلقة للأساتذة، وتحويل استقلالية قوية للجامعات، والفصل بين التعليم العالي وسوق الشغل. ما يلاحظ هو غياب شبه تام لملامح هذا النموذج في مشروع القانون 59.24، ويتجلى هذا الغياب في تبني نظام لتدبير الموارد البشرية لا يعزز ولاء الأستاذ الباحث لمؤسسته، وتهميش حضور الأستاذ الباحث في الهياكل التقريرية للجامعة، والتركيز عمليا على ملاءمة التكوين مع مخرجات سوق الشغل على حساب حرية البحث العلمي الأساسي.
 
رابعا، النموذج الاسكندنافي الراعي للدولة الاجتماعية، والذي يستمد فلسفته من اعتبار التعليم العالي حق اجتماعي وأداة لتحقيق المساواة، وأن غايته هي ضمان تكافؤ الفرص والارتقاء المجتمعي، ولأجل ذلك فإنه يجعل من مجانية التعليم، والدعم المالي الكبير للطلبة، والتركيز على الولوج العادل للجودة الجامعية، أدوات لا غنى عنها لتفعيل هذا النموذج. غير أن مرتكزات هذا الأخير تكاد تكون مهمشة في المشروع الجديد، وللدلالة عن هذا التهميش يكفي أن نشير إلى أنه يعلن عن مبدأ المجانية لكن مع فتح الباب واسعاً للأداء في التكوين المستمر والتكوين الأساس الميسر، ويشجع التعليم الخاص الذي يهدد مبدأ تكافؤ الفرص دون إلزامه برسوم للتمدرس تحددها الدولة كما دعا إلى ذلك القانون الإطار للتعليم، ويلغي الأحكام التي سنها هذا الأخير لدعم الطلبة من الفئات الهشة للالتحاق بالتعليم الخاص.
 
استحضارا لهذه النماذج الدولية الأربعة يمكن القول بأن استقلالية الجامعات في المشروع المغربي أضعف بكثير من هذه النماذج المقارنة التي تمنح جامعاتها حرية حقيقية في التدبير المالي والإداري، بينما يحافظ المشروع المغربي على وصاية إدارية قوية، خاصة على القرارات الكبرى. وفيما يتعلق بالحكامة، يقترب المشروع المغربي من النموذج الأمريكي في هيمنة الفاعلين الخارجيين على مجلس الأمناء، لكنه يختلف عنه جذرياً في إهماله لضمانات الحريات الطلابية والتمثيل المستقل التي هي سمة أساسية في النموذجين الأمريكي والألماني. هذا يجعل التوازن فيه مختلاً لصالح النخب الاقتصادية على حساب المجتمع الجامعي الداخلي. وفيما يتعلق بالتمويل يسير المشروع المغربي نحو نموذج تمويل مختلط كما في فرنسا، لكن بربط أكثر صرامة وسرعة بسوق الشغل، والخطر هو الوصول إلى تكاليف أمريكية إذا ارتفعت الرسوم دون الوصول إلى جودة أو موارد أمريكية، مع إهمال نموذج المجانية والجودة الألماني الذي يعتبر الأكثر توازناً اجتماعياً. لكن ربما أكبر قصور في المشروع المغربي هو غياب الضمان الصريح للحرية الأكاديمية، على عكس كل النماذج المقارنة حيث تعتبر هذه الحرية حجر الزاوية، لأن التوجيه المفرط للبحث نحو الحاجات الاقتصادية المباشرة، دون حماية للبحث الأساسي الحر، يهدد بإفقار الحياة الفكرية على المدى الطويل.
 
يتضح من هذه المقارنة الدولية أننا أمام مشروع هجين بتناقضات داخلية، إذ أنه لا ينتمي بوضوح إلى أي نموذج من النماذج الدولية المعروفة التي ذكرناها آنفا، بل إنه يخلط عناصر متنافرة: فهو يريد مركزية الدولة الفرنسية في التعيين والتحكم الاستراتيجي، ويريد تنافسية السوق الأمريكية في تشجيع العلاقة مع المقاولة وتنمية الموارد الذاتية، وينشد الحرية الأكاديمية الألمانية خطابياً ويقوضها عملياً، ويعلن العدالة الاجتماعية الاسكندنافية ويضعف أسسها. وهذا الارتباك الفلسفي قد يؤدي إلى تناقضات جوهرية، أبرزها أولا أن الجامعة المغربية لن تصل إلى مستوى من الاستقلالية يمكنها من أن تنافس مثل النموذج الأنجلوسكسوني، لأنها مقيدة بوصاية مركزية مستمدة من النموذج الفرنسي. وثانيا، أن الإرادة الفردية للأستاذ المغربي الباحث لن تكون حرة مثل ما يدعو إليه النموذج الألماني، لأنها خاضعة لنظام ترقية مركزي لا يرتبط بمشروع جامعته. وثالثا، أن التعليم العالي المغربي لن يحقق مطلب العدالة الاجتماعية الذي يتبناه النموذج الاسكندنافي، لأنه يتبنى منظومة بسرعتين، إيقاع بطيء تجسده الجامعة العمومية وخاصة المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح، وإيقاع سريع تجسده الجامعة الخاصة والمؤسسات غير الربحية ذات النفع العام كما يسميها المشروع الجديد.
 
في الختام يمكن القول بأن مشروع القانون 59.24 يمثل نقلة جديدة في سياسة التعليم العالي المغربي، ساعياً إلى الانتقال من نموذج الدولة الحاضنة إلى نموذج الجامعة-المقاولة. إلا أن هذه النقلة تتسم بطابع هجين يجمع بين تحرير اقتصادي جزئي للجامعات وتقوية للوصاية الإدارية المركزية عليها، مما يخلق تناقضات جوهرية تهدد تحقيق أهداف الجودة والإنصاف والاستقلالية. إن مشروع القانون 59.24 يفتقر إلى فلسفة واضحة ومتماسكة ويبدو أن المنطق الذي حكمه، كما برهنا على ذلك في الجزء الثاني من المقال، هو تقنين الواقع الجديد الذي لم يستوعبه القانون 01.00 وذلك بإضافة بعض المقتضيات لبنية هذا الأخير دون إخضاعها لرؤية استراتيجية موحدة كان بالإمكان استنباطها من توجهات الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 وأحكام القانون الإطار 51.17. النتيجة المتوقعة هي اختلالات تنظيمية وصراعات داخلية بين أهداف متضاربة، بحيث قد تنجح بعض المؤسسات في تبني النموذج التنافسي، بينما تظل أخرى غارقة في النموذج البيروقراطي، مما يعمق التفاوت بينها ويضعف منظومة التعليم العالي والبحث العلمي ويجعلها عرضة للفشل في تحقيق التحول المنشود. هذا التحول كان من الممكن أن يؤسس له مشروع القانون الجديد لو تخلص المنطق الذي حكم صياغته من تأثير القانون الحالي 01.00، وتبنى رؤية نسقية جديدة تستمد شرعيتها من مرجعيات إصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، وتستوحي بعض مكوناتها من النماذج الدولية الناجحة، مع الحرص على أن تكون في خدمة بناء نموذج مغربي خالص خال من التناقضات النظرية والمعيقات العملية التي قد تحول دون النجاح في تحقيق أهدافه.