عبدالواحد غيات: سياسة الإلهاء.. وجه جديد للسلطة في العلاقات الدولية

عبدالواحد غيات: سياسة الإلهاء.. وجه جديد للسلطة في العلاقات الدولية عبد الواحد غيات

الملخص

تتناول هذه الورقة البحثية ظاهرة "سياسة الإلهاء" في العلاقات الدولية كأداة تستعملها الدول لصرف الانتباه عن أزمات داخلية أو أهداف خارجية خفية. يتم تحليل الآليات التي تقوم عليها هذه السياسة وربطها بالنظريات الكبرى في العلاقات الدولية (الواقعية، الليبرالية، والبنائية)، مع تقديم دراسات حالة واقعية تشمل الولايات المتحدة وروسيا وبعض الدول العربية وقطر. تهدف الورقة إلى المساهمة في تعميق الفهم الأكاديمي للطابع الخفي والمركّب لسياسة الإلهاء وتداعياتها طويلة الأمد على الاستقرار المحلي والدولي.

مقدمة:من السيطرة المادية إلى توجيه الوعي

شهدت العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين تحولات عميقة في أدوات ممارسة السلطة، حيث لم تعد القوة مرتبطة حصريًا بالموارد المادية أو السيطرة الجغرافية، بل أصبحت القدرة على توجيه الإدراك وتشكيل الوعي الجماعي أداة مركزية. وفي هذا السياق برزت سياسة الإلهاء كآلية لإدارة الأزمات الداخلية وتوجيه الرأي العام بعيدًا عن القضايا الجوهرية.

تطرح هذه الورقة الإشكالية التالية: كيف تُستخدم سياسة الإلهاء في العلاقات الدولية كأداة لإدارة الأزمات وصياغة الرأي العام، وما الآثار المترتبة على استخدامها على المديين القريب والبعيد؟

الإطار النظري

في ظل تزايد التداخل بين الإعلام والسياسة والاستراتيجيات الجيوسياسية، برزت سياسة الإلهاء كآلية فعالة تستخدمها بعض الأنظمة والدول للتأثير في الإدراك العام وتوجيه الرأي الداخلي والخارجي بعيدًا عن القضايا الجوهرية.  لم تعد الأزمات تُعالج بالحلول المباشرة، بل تُدار أحيانًا عبر تسويق أزمات بديلة أو خلق قضايا جانبية تشغل الرأي العام عن الأسباب الحقيقية للتوتر أو الفشل. من هنا، تطرح هذه الورقة البحثية إشكالية مركزية تتمثل في: "كيف تُستخدم سياسة الإلهاء في العلاقات الدولية كأداة لإدارة الأزمات وصياغة الرأي العام، وما الآثار المترتبة على استخدامها على المستويين القريب والبعيد، سواء داخليًا في بنية الدولة أو خارجيًا في النظام الدولي؟"

الواقعية السياسية

تُعتبر الواقعية السياسية إحدى أبرز النظريات في فهم العلاقات الدولية، حيث ترى أن الدول فاعلون أساسيون يسعون لتعظيم مصالحهم وحماية أمنهم باستخدام جميع الوسائل المتاحة، بغض النظر عن الاعتبارات الأخلاقية. ضمن هذا السياق، تُعد سياسة الإلهاء وسيلة فعالة للدول لحفظ استقرارها الداخلي، عبر توجيه الرأي العام نحو عدو خارجي مفترض (Morgenthau, 1948)، يُبرر التضييق على الحريات أو التصعيد السياسي. هذا الاستخدام يعزز وحدة الدولة في مواجهة تهديد مشترك، حقيقي كان أو مُفتعل، وبالتالي يساهم في تمتين شرعية النظام الحاكم.

الليبرالية

تؤمن النظرية الليبرالية بفاعلية المؤسسات الدولية والدبلوماسية في تهدئة النزاعات وتعزيز التعاون بين الدول. إلا أن سياسة الإلهاء تكشف عن نقطة ضعف في هذه الرؤية، إذ توضح كيف يمكن للدول استخدام الإعلام والمؤسسات نفسها كأدوات للتضليل والتشويش، متجاوزة مبادئ الشفافية والمساءلة. بعبارة أخرى، تصبح المؤسسات التي يفترض أن تضمن حقوق الأفراد ووضوح السياسات، آلية تمويه تخدم أجندات السلطة، مما يُضعف من مصداقية الأنظمة الديمقراطية (Keohane & Nye, 1977).

البنائية

تركز النظرية البنائية على أن العلاقات الدولية ليست فقط ناتجة عن المصالح المادية، بل تشكلها التصورات والهوية والسرديات الوطنية. من هذا المنظور، تُعيد سياسة الإلهاء تشكيل إدراك الجماهير للواقع السياسي والاجتماعي، عبر إعادة إنتاج سرديات وطنية موحدة، تُوظف أحيانًا لتبرير القمع الداخلي أو التدخل الخارجي في دول أخرى. بهذا الشكل، لا تكون سياسة الإلهاء مجرد أداة إعلامية، بل وسيلة لصياغة "الواقع الاجتماعي" نفسه، بما يعزز من تماسك الهوية الوطنية أو الشرعية السياسية. )Wendt, 1992(

آليات تنفيذ سياسة الإلهاء

تلجأ بعض الدول إلى افتعال أزمات خارجية أو تضخيمها بهدف حشد الإجماع الوطني وتحويل الأنظار عن الأزمات الداخلية أو الإخفاقات الاقتصادية والسياسية، مما يساعدها على تلطيف الضغوط الداخلية. في الوقت نفسه، تُستغل قضايا الهوية والدين والقيم الأخلاقية كأدوات لإثارة الانقسامات داخل المجتمع، بحيث تُصبح هذه القضايا الجانبية محور النقاش بدلاً من التركيز على السياسات الأساسية التي تؤثر في حياة المواطنين بشكل مباشر.

تعتمد هذه الاستراتيجية بشكل كبير على الإعلام التقليدي والحديث، بما في ذلك منصات التواصل الاجتماعي، التي تُستخدم لتضخيم القضايا الترفيهية أو المثيرة للجدل، مما يُبعد الجمهور عن القضايا الحاسمة. كما تُوظف الرموز الوطنية والثقافية، مثل البطولات الرياضية والاحتفالات الرسمية، لترسيخ شعور بالوطنية، لكن في الوقت ذاته تُخفي هذه الفعاليات مشكلات اقتصادية واجتماعية متفاقمة. يُضاف إلى ذلك، أسلوب التكرار وصناعة عدو مشترك، الذي يُستخدم كآلية لتوحيد الجمهور وإلهائه عن المشاكل الحقيقية، عبر بث رسائل متكررة تكرّس تحكّم السلطة في الوعي الجمعي.

تطبيقات واقعية لسياسة الإلهاء

الولايات المتحدة الأمريكية وحرب العراق عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، عرفت الولايات المتحدة تحوّلًا جذريًا في توجهاتها الداخلية والخارجية، تجسّد في إطلاق حملة واسعة تحت شعار" الحرب على الإرهاب ".  وفي هذا السياق، شُنّت الحرب على العراق سنة 2003 رغم غياب دلائل حاسمة على امتلاك النظام العراقي لأسلحة دمار شامل. وقد ساعد هذا التوجه على إعادة صياغة النقاش العام، حيث انتقلت الأولوية من مساءلة الأجهزة الاستخباراتية عن أسباب الهجمات إلى تكريس إجماع وطني حول ضرورة مواجهة ما اعتُبر تهديدًا إرهابيًا خارجيًا. يشكل ذلك مثالًا بارزًا على توظيف سياسة الإلهاء في إعادة توجيه الرأي العام وصرفه عن القضايا الجوهري (Chomsky, 2003.

غير أن هذه السياسة أفرزت تداعيات سلبية عميقة، إذ جرى تهميش مبدأ المحاسبة والشفافية داخل النظام الديمقراطي لصالح خطاب أمني مهيمن، استند إلى استغلال حالة الخوف الجماهيري لتبرير توسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية على حساب الحريات المدنية. كما أدخلت الحرب البلاد في نزاعات ممتدة ساهمت في تقويض الاستقرار الإقليمي والدولي، وأفرزت تكاليف إنسانية وسياسية هائلة . (Stiglitz & Bilmes, 2008) وهو ما يكشف بوضوح كيف يمكن أن تتحول سياسة الإلهاء من وسيلة ظرفية إلى آلية لإدامة سياسات مثيرة للجدل بعواقب استراتيجية بعيدة المدى.

روسيا وجزيرة القرم

في عام 2014، شهدت روسيا ضم شبه جزيرة القرم وسط أجواء سياسية داخلية متوترة، حيث تراجعت شعبية الحكومة وزادت الاحتجاجات الشعبية. استُخدمت هذه الخطوة لتعزيز الخطاب الوطني حول الأمن القومي وإحياء شعور "استعادة الهيبة السوفييتية" المفقودة، مما أعاد صياغة أولويات الجمهور السياسي من خلال سياسة الإلهاء التي حولت التركيز من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية إلى قضية قومية ذات طابع تاريخي وجيوسياسي. يعكس استخدام روسيا لسياسة الإلهاء في هذا السياق قدرتها على استثمار الهوية الوطنية والذاكرة التاريخية لتأسيس شرعية فعلية أو رمزية لقرارات سياسية مثيرة للجدل. ورغم نجاح هذا التوجه في تعزيز الدعم الشعبي داخليًا، إلا أنه أدى إلى عزلة دولية وعقوبات اقتصادية أثرت سلبًا على الاقتصاد الوطني.

من هنا يُبيّن لنا هذا النموذج كيف يمكن لسياسة الإلهاء أن تحقق مكاسب مؤقتة وتكسب الوقت، لكنها في الوقت ذاته تخاطر بخلق أزمات أعمق في النظام الدولي قد تُضعف الدولة على المدى المتوسط والطويل.

الدول العربية والربيع العربي

بعد موجة الثورات العربية التي انطلقت عام 2010، لجأت بعض الأنظمة الحاكمة إلى استخدام خطاب "المؤامرة الخارجية" و"الخطر الطائفي" كوسيلة لإلهاء الشعوب عن المطالب الديمقراطية والاقتصادية الحقيقية. ركز هذا الخطاب على تحذير المجتمع من تدخلات أجنبية وتفكك الوحدة الوطنية، مما ساعد في تبرير فرض القبضة الأمنية، وتجميد التحولات السياسية، وتقويض الحركات الإصلاحية.

في هذا السياق، مثّلت سياسة الإلهاء تكتيكًا مكثفًا للقمع السياسي والتشويش على مطالب التغيير، حيث استُغلّت مخاوف الجماهير لتحويلها إلى أعداء داخليين أو خارجيين، مبررة بذلك الإجراءات الأمنية الصارمة وتجميد الحريات، ما أدى إلى تقويض أسس الديمقراطية والتنمية المستدامة، وتعميق الانقسامات المجتمعية، وتعطيل الحوار الوطني، مما عزز الاستبداد. وبذلك، تتحول سياسة الإلهاء من أداة للحفاظ على النظام إلى عامل يُفاقم أزمات الشرعية ويُضعف بناء الدولة على المدى البعيد.

كأس العالم 2022 في قطر

مثال حديث على سياسة الإلهاء عبر القوة الناعمة هو استضافة قطر لكأس العالم 2022. رغم الجدل الدولي الواسع حول قضايا حقوق العمال وظروف العمل في قطر، نجحت الدولة في استثمار هذا الحدث الرياضي العالمي لإعادة تشكيل صورتها الدولية وتعزيز مكانتها الجيوسياسية. شكّل كأس العالم "غطاءً إعلاميًا" ضخمًا يُشتت الانتباه عن الانتقادات الحقوقية والسياسية، ويبرز قطر كدولة حديثة وقادرة على استضافة تظاهرات عالمية، مما يعكس استراتيجية الإلهاء عبر "الإنجازات الرمزية" والفعاليات الكبرى. ومع ذلك، كشفت التجربة عن التوتر العميق بين القوة الناعمة والحقوق الأساسية، حيث يطرح استخدام الرياضة، كأداة إلهاء فعالة لتغطية الانتهاكات الحقوقية، إشكالية أخلاقية مهمة حول مدى قدرة الأحداث العالمية الكبرى على تحويل الأنظار دون معالجة القضايا الجوهرية.

من منظور نقدي، يشير هذا إلى خطر تحوّل الفعاليات الرمزية إلى "تمويه" يُغطي على أزمات حقوق الإنسان، مما قد يُضعف الحراك الدولي الداعم للعدالة والشفافية، ويفتح باب التساؤل حول مسؤولية المؤسسات الدولية في الموازنة بين الاحتفالات الكبرى والالتزام بالقيم الأخلاقية.

الإعلام والإلهاء المعلوماتي

مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وتوسع انتشارها، أصبحت سياسة الإلهاء أكثر انتشارًا وفعالية في تشكيل الرأي العام. بات بإمكان الدول والجهات الفاعلة خلق "ترندات مصطنعة" تُسيطر على النقاشات العامة، أو ضخ كم هائل من المعلومات المتضاربة بهدف تشويش الإدراك الجماهيري وإرباك قدرة الأفراد على التمييز بين الحقيقة والدعاية الموجهة.

تُستخدم هذه الآليات لإغراق الجمهور في تدفق مستمر من الأخبار والمحتوى، ما يؤدي إلى تشتت الانتباه وتراجع قدرة الجمهور على التركيز على القضايا الجوهرية. بهذا الشكل، يتحول الإعلام الحديث إلى أداة فعالة في تنفيذ سياسة الإلهاء، حيث تُستثمر منصات التواصل الاجتماعي ليس فقط في نقل المعلومات، بل أيضًا في السيطرة على سرديات معينة وتوجيه الانتباه بعيدًا عن الأزمات والمشكلات الحقيقية.

الآثار والتداعيات السياسية والاجتماعية

ينطوي انتشار المعلومات المضللة على آثار خطيرة تمسّ أسس المجتمعات واستقرارها. من أبرز هذه التداعيات تقويض الشفافية والمحاسبة، حيث تصبح الحقائق مشوشة، ويصعب على المواطنين التحقق من صحة المعلومات، مما يُضعف قدرتهم على محاسبة المسؤولين وصانعي القرار. كما يؤدي ذلك إلى تشويه أولويات الجمهور، إذ تُصرف الانتباه نحو قضايا ثانوية أو مفتعلة، على حساب القضايا الجوهرية التي تمسّ حياة الناس بشكل مباشر.

علاوة على ذلك، تسهم هذه الظاهرة في إضعاف الثقة بالمؤسسات، سواء كانت حكومية أو إعلامية أو تعليمية، ما يُفضي إلى تآكل شرعيتها. ويترافق ذلك مع تشجيع ثقافة المؤامرة والتطرف، حيث يجد بعض الأفراد أنفسهم عرضة لتبني روايات متطرفة نتيجة غياب المعلومات الدقيقة. وفي السياق الأوسع، فإن لهذه الظاهرة دورًا في زعزعة الاستقرار الإقليمي، إذ يمكن استخدامها كأداة في الحروب الإعلامية لنشر الفوضى وبث الفتن داخل المجتمعات وبين الدول.

نحو وعي نقدي في مواجهة الإلهاء

تُعد سياسة الإلهاء ظاهرة معقدة تتجاوز كونها مجرد ممارسة ظرفية للخداع السياسي، لتتحول إلى نمط استراتيجي مستدام في آليات الحكم وإدارة الرأي العام. ويؤكد هذا الواقع على الحاجة الملحّة إلى ترسيخ الوعي النقدي لدى الأفراد والمجتمعات، وتطوير أدوات فعّالة لرصد وتحليل السرديات السياسية والإعلامية، خصوصًا في ظل بيئة إعلامية ومعرفية تتسم بكثافة وضغط متزايدين. تكشف نتائج هذه الدراسة أن مساءلة هذه الممارسات لا ينبغي أن تنحصر في تحليل مقاصد الفاعلين السياسيين فحسب، بل يجب أن تمتد إلى تقييم تداعياتها العميقة على البنية الذهنية للجماعة، والهوية الاجتماعية، والاستقرار السياسي. ومن ثمّ، يبرز الدور المركزي للبحث الأكاديمي والسياسي في تفكيك هذه الظاهرة وفضح آلياتها، بما يسهم في الحد من توظيفها كأداة للهيمنة والسيطرة.

 

عبد الواحد غيات/  أستاذ باحث في العلوم السياسية