عبد الرفيع حمضي: ‎الوزيرة دييلا.. نهاية الديمقراطية

عبد الرفيع حمضي: ‎الوزيرة دييلا.. نهاية الديمقراطية عبد الرفيع حمضي
الوزيرة الجديدة لم تكن في حاجة لا إلى أداء القسم، ولا أن يقدّمها الرئيس لزميلاتها وزملائها في مجلس الحكومة، ولا حتى إلى حفل شاي بمقر الوزارة لتسليم السلط. يكفي لمس زر بسيط حتى تنتصب أمامك سيدة انيقة  : «أنا دييلا، وزيرة محاربة الفساد؛ وزيرة لا تعرف النوم ولا الرشوة ولا المجاملة».

‎ذهل الجميع، وبدا المشهد في البداية وكأنه حكاية من حكايات "علاء الدين والمصباح السحري»، لكن الأمر كان جديًّا. فها هي دولة عضو في مجلس أوروبا تعيّن لأول مرة وزيرة افتراضية من ابتكار الذكاء الاصطناعي، في خطوة وُصفت بأنها بقدر ما هي جريئة بقدر ما هي مقلقة.

‎ألبانيا بلد صغير في البلقان، خرج من نظام شيوعي في التسعينيات ويحاول منذ ذلك الحين أن يشق طريقه نحو الاتحاد الأوروبي. مساره السياسي كان دائمًا محفوفًا بانتقادات حول الفساد وضعف المؤسسات. لذلك جاء تعيين «دييلا» محمّلاً برمزية سياسية أكثر منه إصلاحًا تقنيًّا، وكأنه دعوة للتأمل في معنى السياسة نفسها.

‎قد نبتسم من المشهد، لكنه يثير سؤالًا فلسفيًا عميقًا حول مصير الديمقراطية كما عرفناها منذ قرون. فهل بلغنا لحظة النهاية في مسار الديمقراطية التمثيلية؟ وهل وصل العجز في مواجهة الفساد إلى حدّ الاستعانة بآلة  «محايدة» بدل الإنسان السياسي؟ أرسطو رأى أن السياسة فعل إنساني يقوم على الفضيلة، وروسو حلم بعقد اجتماعي يؤسس لسيادة الشعب، فيما أكّد هابرماس أن الشرعية لا تُبنى إلا عبر الحوار العمومي. واليوم تأتي «دييلا» لتعلن بسخرية أنّ البشر فشلوا، فلنجرّب الخوارزمية. والسؤال هنا وجودي بالأساس: ما معنى أن تحكمنا برمجيات؟

‎ما جرى في ألبانيا لا ينفصل عن سياق عالمي أوسع يتسم بتراجع شرعية الديمقراطية التمثيلية. نسب المشاركة الانتخابية تتراجع، الأحزاب التقليدية يمينًا ويسارًا ووسطًا تفقد بريقها، الشعبويات تملأ الفراغ، والفساد ينهك المؤسسات ويضعف الثقة العامة. لذلك ليس غريبًا أن نرى بعض الحكومات تبحث عن بدائل غريبة ،من وزيرة افتراضية إلى تجارب الديمقراطية الرقمية، وكأنها تحاول ترميم شرعية متصدعة بأدوات تقنية. لكن السؤال الجوهري يظل مطروحًا.

‎هل تكفي الخوارزميات لتعويض غياب الثقة في المؤسسات والمسؤولين، منتخبين كانوا أم معيين؟
‎وفي المغرب، ونحن مقبلون على انتخابات جديدة، يعود السؤال نفسه بإلحاح ،هل ما زال المواطن يثق في جدوى صوته الانتخابي؟ هل يشعر فعلًا أن من يُنتخب يتحمل المسؤولية أمامه؟ وهل يكفي تمثيل شكلي لبناء شرعية سياسية قائمة على الشفافية والمساءلة، من دون ربط السياسة بثقافة المسؤولية والثقة؟

‎طرافة الحكاية الألبانية لا يجب أن تحجب خطورتها. فحين يُستبدل الإنسان بوهم  في موقع سياسي، فذلك إعلان عن أزمة عميقة في الثقة. والسؤال عندنا ،هل نحن في حاجة إلى «دييلا» مغربية تراقب المال العام، أم إلى شجاعة سياسية تعترف بالأخطاء وتبني جسورًا جديدة مع المجتمع؟ التكنولوجيا يمكن أن تدعم الإصلاح، لكنها لا تصنع ثقة ولا تؤسس شرعية. الديمقراطية تبدأ من المدرسة والحي والفضاء العمومي، قبل أن تصل إلى البرلمان أو الحكومة، فهي ممارسة يومية أكثر منها لحظة اقتراع.

‎فإما أن نثبت أن الديمقراطية مسؤولية بشرية لا خوارزمية، فنربح ثقة المواطنين ونصون مستقبل السياسة، وإما أن نفشل فنجد أنفسنا يومًا مضطرين ليس فقط إلى وزيرة افتراضية، بل إلى رئيس حكومة افتراضي وحكومة افتراضية بأكملها. وحينها سيكون المشهد مضحكًا، والمستقبل مأساويًا.