في عالم سريع التغير تتكاثر قصص النجاح والتحدي التي تعكس كيف يمكن للفرد أن يترك بصمة فريدة في مجتمعه وفي العالم. ومن بين هذه القصص تبرز تجربة أمحمد صبور، أستاذ علم الاجتماع بجامعة شرق فنلندا، الذي يشكل نموذجًا ناجحًا للمثقف العربي في السياق العالمي الحديث.
وُلد صبور عام 1947 في الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمغرب،تلك المدينة التي كانت وما زالت بوتقة تنصهر فيها الثقافات العربية والأمازيغية والفرنسية هذه البيئة المتعددة الأوجه شكّلت لاحقًا محور اهتمامه البحثي والفكري، إذ كانت تجربة التنوع الثقافي واللغوي بمثابة الأرضية التي بنى عليها فكره العلمي والاجتماعي
نشأ صبور في أجواء عائلية وأكاديمية تشجع على البحث والمعرفة، لكن تجربته في الدار البيضاء كانت مختلفة إذ عاش في مدينة تملؤها التحولات الاجتماعية والسياسية ما جعله يشهد عن قرب صراعات الهوية والاغتراب التي يعيشها المثقفون العرب في العالم المعاصر
التحدي في الغربة بداية مشوار أكاديمي في فنلندا
عام 1976 قرر محمد صبور، الانتقال إلى فنلندا بلد مختلف تمامًا عن المغرب من حيث المناخ والثقافة واللغة. كانت هذه الخطوة تحديًا جسيمًا لكنها في الوقت ذاته شكلت فرصة فريدة لصقل خبراته الأكاديمية وتوسيع أفقه الفكري.
بدأ دراسته في جامعتي يوفاسكولا ويوينسو، حيث درس علم الإجتماع وركز بشكل خاص على ثقافة المعرفة وأدوار المثقفين خلال سنوات دراسته أنجز بحث الليسانس وأطروحةالدكتوراه ،حول موضوع هوية المثقف العربي واغترابه الثقافي خاصة في عالم سريع التحول.
جاءت أطروحته للدكتوراه بعنوان الإنسان الأكاديمي العربي، وهي دراسة تأثر فيها بشدة بأفكار عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو الذي شارك جزئيًا في الإشراف على البحث إلى جانب البروفيسور الفنلندي "ي ب هايرينن". لم تقتصر هذه الدراسة على استكشاف الهوية الأكاديمية بل سعت أيضًا لفهم التوترات بين الثقافات وطرق تعاطي المثقف العربي مع تحديات الاغتراب والهوية والانتماء
أسطورة أكاديمية وباحث متعدّد الأفق
بعد حصوله على الدكتوراه عام 1988، بدأ صبور رحلة مهنية طويلة ومثمرة في حقل علم الاجتماع شغل خلالها مناصب أكاديمية مرموقة بدءًا من أستاذ مساعد مرورًا بأستاذ مشارك وصولًا إلى أستاذ كامل في عام 2002 ثم أستاذ فخري بعد تقاعده عام 2013.
اتسع اهتمامه البحثي ليشمل مجالات متعددة منها دراسة المثقفين والجامعة كمؤسسة اجتماعية والعلاقات العرقية والتنوع الثقافي وقضايا البحر الأبيض المتوسط. وقد جعلته هذه المقاربات من أبرز الأصوات في الدراسات الاجتماعية متعددة الثقافات في فنلندا وخارجها.
كما عمل كباحث زائر في جامعات مرموقة مثل جامعة كاليفورنيا بيركلي وكوليج دو فرانس في باريس، وهذا أتاح له تعزيز شبكة بحثية دولية أثرت تجربته ووسّعت من أثره الأكاديمي
من الإنجاز الأكاديمي إلى التقدير الفخري مسيرة علمية غنية بالتجربة
يمتد المسار الأكاديمي أمحمد صبور على مدى عقود من العمل البحثي والتعليمي المتواصل حصل على بكالوريوس في علم الاجتماع من جامعة يوينسو وماجستير في علم الاجتماع من الجامعة نفسها ثم دكتوراه في فلسفة علم اجتماع المعرفة والثقافة تحت إشراف البروفيسور بيير بورديو والبروفيسور "ي ب هايرينن".
شغل خلال مسيرته العديد من المناصب الأكاديمية داخل جامعة يوينسو التي أصبحت لاحقًا جزءًا من جامعة شرق فنلندا، حيث عمل أستاذًا مساعدًا وأستاذًا مشاركًا ثم أستاذًا كاملًا كما عمل كزميل باحث أول لدى أكاديمية فنلندا. إضافة إلى دوره في التدريس والإشراف على الطلاب والدراسات العليا، فقد أسهم بفاعلية في تطوير البرامج الأكاديمية مثل برنامج الماجستير في التنوع الثقافي بجامعة يوينسو الذي يجمع بين البعد النظري والتطبيقي في تعليم العلوم الاجتماعية
جسور الثقافة والمعرفة الترجمة والتدريس
واحدة من أبرز مساهماته كانت في تعزيز الحوار الأكاديمي بين الجنوب والشمال. ففي عام 1995 قاد فريقًا لترجمة كتاب علم الاجتماع التأملي لبيير بورديو ولويك و"كانت"، إلى اللغة الفنلندية وساهم هذا العمل في إيصال الفكر النقدي والاجتماعي إلى جمهور جديد في الشمال الأوروبي
كما كان له دور ريادي في تأسيس برامج تعليمية متعددة التخصصات وجمع في تدريسه بين التحليل السوسيولوجي العميق والبعد الإنساني للمعرفة
الناشط الاجتماعي والكاتب الفاعل
لم يقتصر دور صبور على الحقل الأكاديمي، فقد نشط اجتماعيًا في كل من المغرب وفنلندا، حيث تم تعيينه سفيرًا للنوايا الحسنة من قبل المجلس الاستشاري للعلاقات العرقية التابع لوزارة الداخلية الفنلندية تقديرًا لدوره في تعزيز التفاهم الثقافي والاجتماعي
نشر مقالات عديدة في الصحافة العربية والفنلندية تناولت موضوعات مثل الربيع العربي والعولمة وقضايا الهوية ودور الجامعات في العالم الحديث. كما شارك مع زوجته ريتا في تأليف دليل سياحي إلى المغرب في تعبير عن ارتباطه العميق بجذوره الثقافية والمجتمعية.
أعمال غنية ومتنوعة
خلال مسيرته العلمية الطويلة نشر محمد صبور، العديد من الكتب التي تركت أثرًا مهمًا في المجالين الأكاديمي والثقافي منها الهوية الثقافية واغتراب المثقفين العرب التي صدرت في منتصف الثمانينيات والإنسان الأكاديمي العربي وهي أطروحته للدكتوراه عام 1988 والتعليم العالي في المغرب بين الأسلمة وعلمنة التغيير عام 1994 والإقصاء الاجتماعي في فنلندا عام 1999 والوجودية ومكانة المثقفين العرب عام 2001 والعولمة والدور المتغير للجامعة عام 2005 وريادة الأعمال والتنوع الثقافي في مجتمع متجانس عام 2011 تتميز هذه الأعمال بعمقها النظري وارتباطها الوثيق بتحديات المثقف العربي في عصر العولمة كما تقدم رؤية نقدية ودراسات معمقة حول دور الجامعة ومكانتها في تشكيل المجتمعات الحديثة
نموذج متجدد للمثقف الجسر
يمثل أمحمد صبور نموذجًا ملهمًا للمثقف العربي الذي استطاع العبور بين الثقافات دون أن يتخلى عن جذوره، وجسّد قدرة الإنسان على التكيّف والتفاعل مع بيئات مختلفة من دون ذوبان أو انغلاق
من خلال مسيرته البحثية والأكاديمية والاجتماعية أظهر أن التعددية الثقافية ليست عائقًا بل فرصة لفهم الذات والآخر والمساهمة في بناء مجتمعات أكثر عدالة وشمولًا.
امحمد صبور في صورة جماعية محمد أشكالو، سفير المغرب بهيلسنكي
نماذج ناجحة ومشرفة
في عالم يشهد تغيرات متسارعة وتحديات متعددة الأوجه، تظل شخصيات مثل أمحمد صبور، بمثابة نماذج ناجحة ومشرّفة للمثقفين العرب الذين لم يتقوقعوا داخل حدود الجغرافيا أو اللغة، بل انفتحوا على العالم وأثروا فيه من مواقعهم العلمية والاجتماعية.
قصته تلهم أجيالًا من الشباب العربي للإيمان بقدراتهم والتمسك بهويتهم الثقافية، دون أن يكون ذلك عائقًا أمام الانفتاح والتفاعل مع الآخر. فمثل هذه النماذج لا تمثل نجاحًا شخصيًا فحسب، بل تعكس صورة مشرقة عن الإمكانيات الكامنة في الإنسان العربي حين تتاح له الفرصة، ويجد البيئة التي تحتضن فكره وتغذّي تطلعاته.