الزكاة بين أصالة الشرع وتحديات العصر: مبادرة ملكية لإعادة الوصل بين الدين والمجتمع

الزكاة بين أصالة الشرع وتحديات العصر: مبادرة ملكية لإعادة الوصل بين الدين والمجتمع
مرة أخرى، يبرهن أمير المؤمنين، الملك محمد السادس، على أن إمارة المؤمنين ليست مجرد صفة رمزية أو لقب بروتوكولي، بل هي مسؤولية دينية وتاريخية عميقة تتجسد في رعاية شؤون الدين وحماية مقاصده في زمن تتسارع فيه التحولات الاجتماعية والاقتصادية. فقد أمر جلالته المجلس العلمي الأعلى بإصدار فتوى شاملة حول أحكام الزكاة، خطوة تضع هذا الركن العظيم من أركان الإسلام في قلب النقاش الفقهي المعاصر، وتعيد إليه وضوحه وعمقه بعد أن التبس على الكثيرين.
 
إن ما يميز هذه المبادرة الملكية هو بعدها الإصلاحي والواقعي في آن واحد. فالمجلس العلمي الأعلى سيعكف، بتوجيه من الملك، على إصدار فتوى تجيب عن الأسئلة المتزايدة التي يطرحها المواطنون حول كيفية إخراج الزكاة في ظل اقتصاد معقد يشمل الأجور، والخدمات، والاستثمارات، والمعاملات المالية الحديثة. لم يعد الأمر يقتصر على زكاة الزروع أو المواشي كما في المجتمعات التقليدية، بل أصبح يتطلب اجتهاداً جماعياً يزاوج بين نصوص الشرع وروح العصر.
 
البعد التواصلي للمبادرة لا يقل أهمية عن بعدها الفقهي. فالمجلس العلمي الأعلى سيلتزم بنشر الفتوى خلال شهر واحد، مع فتح موقع إلكتروني خاص بشؤون الزكاة يسمح للمواطنين بطرح أسئلتهم وتلقي الإجابات الموثوقة. هذه الخطوة تنقل الفتوى من فضاءات النخبة الفقهية إلى فضاء عمومي متاح للجميع، في انسجام مع رؤية ملكية تجعل من الدين قوة جامعة ورافعة للتنمية الروحية والاجتماعية.
 
واللافت أن هذا التوجيه الملكي يأتي في سنة يحيي فيها العالم ذكرى مرور خمسة عشر قرناً على ميلاد سيد الخلق، صلى الله عليه وسلم، وكأن أمير المؤمنين يريد أن يذكّر بأن وظيفة العلماء هي البلاغ المبين، وأن الدولة المغربية تتحمل مسؤوليتها في صيانة الدين على نهج جده عليه الصلاة والسلام: تذكيراً وتعليماً وتبليغاً.
 
إن هذه المبادرة تضع المغرب في موقع ريادي بين الدول الإسلامية التي ما زالت تبحث عن صيغ عملية لإحياء فريضة الزكاة بما يتلاءم مع مقتضيات الاقتصاد الحديث. وهي رسالة قوية بأن الدين في المغرب ليس أداة للتوظيف السياسي أو للصراع الإيديولوجي، بل إطار مرجعي للعدل الاجتماعي والتكافل الإنساني.
 
إننا أمام لحظة تاريخية تفتح الباب أمام نقاش مجتمعي راقٍ حول الزكاة ودورها في محاربة الفقر وتقليص الفوارق الاجتماعية، وتؤكد أن إمارة المؤمنين قادرة على تجديد الوظيفة الحضارية للإسلام في مغرب اليوم. وهنا يبرز البعد الاستراتيجي للمبادرة: تحويل الزكاة من مجرد عبادة فردية إلى آلية فعالة للتضامن الوطني والتنمية المستدامة.