في لحظات معينة من تاريخ الأمم، يتحوّل الخطاب السياسي إلى دعوة جماعية لإعادة ترتيب الأولويات. الخطاب الملكي الأخير بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش كان إحدى هذه اللحظات المفصلية: تشخيص دقيق، ورسالة واضحة، ورؤية تتجاوز التشخيص إلى تحفيز الجميع على العمل.
لقد وضع جلالة الملك يده على أحد أعمق التحديات التي تواجه مسارنا التنموي: وجود مناطق وجهات تعيش وتيرة تنمية أبطأ بكثير من غيرها، تعاني الفقر والعزلة وغياب البنى التحتية والخدمات الأساسية. هذه الفجوة لم تعد مجرد تفاوت طبيعي بين المدن والقرى، بل صارت تهديداً حقيقياً لانسجامنا الاجتماعي ولقوة نموذجنا التنموي.
ومع ذلك، فإن قوة الخطاب الملكي لا تكمن في رصد الخلل فقط، بل في دفعنا جميعاً إلى تخيل مغرب يسير على سرعة واحدة، أو على الأقل على سرعات متقاربة، حيث تتقلص الهوة بين الجهات، ويشعر كل مواطن بأن نصيبه من التنمية ليس منّة ولا صدفة، بل حق مشروع.
تحقيق هذا الطموح ممكن إذا جعلنا العدالة المجالية محور السياسات العمومية، عبر:
-ربط كل الجهات بشبكات طرق وسكك حديدية ونقل مدرسي وقروي يسهّل الحركة ويربط المصائر.
-تعميم الخدمات الأساسية – صحة، ماء، كهرباء، إنترنت – كحق مكفول لكل مواطن.
-الاستثمار في الرأسمال البشري، من تعليم جيد إلى نقل مدرسي عصري ودعم الأسر الهشة لتقليص الهدر المدرسي.
الرهان اليوم ليس فقط في ردم الهوة، بل في تحويلها إلى فرصة لتسريع التنمية وتعزيز اللحمة الوطنية. كل يوم نستثمر فيه في المناطق المهمشة هو يوم نربح فيه ثقة مواطن جديد ونضيف لبنة إلى صرح مغرب متماسك.
هذا التحدي، مهما بدا معقداً، ليس مستحيلاً. بالعكس، هو فرصة لإعادة اكتشاف طاقاتنا الجماعية وتحويلها إلى قوة دفع نحو المستقبل. المطلوب إرادة سياسية صلبة، وتنسيق فعّال بين كل الفاعلين، وانخراط حقيقي للمواطنين والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
المغرب الذي نريده ليس حلماً بعيد المنال. إنه مغرب واحد، متكامل، متوازن، يمضي بخطى ثابتة نحو المستقبل، حيث لا يُقاس نجاح التنمية بعدد الأبراج في العاصمة فقط، بل بقدرة طفل في قرية نائية على الوصول إلى مدرسة مجهزة، وشاب في منطقة حدودية على إيجاد فرصة عمل تحفظ كرامته.
الخطاب الملكي كان دعوة صريحة إلى العمل المشترك. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحن أمام فرصة لصناعة تحول تاريخي يضمن أن يسير المغرب على سرعة واحدة، ويجعل كل جهاته وأبنائه شركاء متساوين في الحاضر والمستقبل.