عبد الغني السرار: قراءة في بعض مواد مشروع قانون رقم 59.24 المتعلق بالتعليم العالي

عبد الغني السرار: قراءة في بعض مواد مشروع قانون رقم 59.24 المتعلق بالتعليم العالي عبد الغني السرار
تداول مجلس الحكومة المنعقد، بتاريخ 28 غشت 2025، في مشروع قانون رقم 59.24 يتعلق بالتعليم العالي قدمته وزارة التعليم العالي، وهو ما أثار نقاشا موسعا داخل الأوساط الجامعية والنقابية، لا من حيث توقيت عرضه على المجلس الحكومي ولا من حيث جوهره.

وهكذا، وبعد اجراء قراءة سريعة لمواد المشروع المذكور، يتبين أنه يثير العديد من الملاحظات من حيث الشكل ومن حيث الجوهر، وبما أن الوقت والمجال لا يسمحان للحديث أو الخوض فيها كلها، فإن ذلك لا يمنعنا من ابداء بعض الملاحظات على بعض مواده، لأنها في تقديري الشخصي تتصدر سلم الأولويات من حيث الجانب الجوهري، وهي المتمثلة في الآتي تفصيله.

تنص المادة 9 من المشروع على أن الجامعة تعتبر مؤسسة عمومية تتوفر على الشخصية الاعتبارية وعلى الاستقلالية الإدارية والمالية مع خضوعها لوصاية الدولة، وفي نفس السياق نصت المادة 10 منه على أن الجامعات تتمتع بالاستقلالية البيداغوجية والعلمية والثقافية وتتمتع في الوقت ذاته بحرية المبادرة في مجالات التكوين والبحث العلمي، وهذا أمر محمود وايجابي، بل ومطلوب لعدة أسباب ومبررات، كما تفرضه عدة اعتبارات موضوعية وذاتية.

لكن ما يثير الانتباه، هو أنه داخل دفتي نفس مشروع القانون المذكور، يبدو أن هناك  "غياب" للانسجام والتناسق خاصة فيما يتعلق بالفلسفة العامة التي يجب أن تحكم وتؤطر روح هذا النص القانوني من أول مادة إلى آخر مادة، وهذا الأمر أدى بالتبعية لغياب التناسق الذي تقتضيه الصياغة القانونية على المستوى الجوهري والموضوعي لبعض المواد. وهكذا، فعلى سبيل المثال نجد أن المادة 29 منه حدَّدَت الأجهزة المسيرة للجامعة والتي تتكون من مجلسين هما1: مجلس الأمناء (تم استحداثه)؛ ثم 2: مجلس الجامعة (ساري به العمل في القانون الحالي).

فمن حيث الهندسة والشكل، نجد بأن المُشَرِّع يضع مجلس الأمناء في مرتبة متقدمة على مجلس الجامعة وقبله، وفي هذا ايحاء ضمني وصريح على أن مجلس الأمناء يحظى بأهمية خاصة بالمقارنة مع مجلس الجامعة، وإذا كان الأخير أي مجلس الجامعة، جهاز معمول به في القانون رقم 01.00 المتعلق بالتعليم العالي، والذي لا زال ساري العمل به حاليا، ويتمتع هذا المجلس بجميع السلط والصلاحيات اللازمة لتدبير وإدارة الجامعة طبقا، للمادة 11 من القانون رقم 01.00، فإنه في المشروع الجديد تم توسيع تركيبته بموجب المادة 36 وتغييرها نوعا ما مع الإبقاء على عضوية بعض الفئات التي لا علاقة لها بالشأن الجامعي، مع تقزيم تمثيلية الأساتذة الباحثين من ثلاثة أساتذة منتخبين عن كل مؤسسة جامعية، كما كان سابقا، إلى أستاذ باحث عن كل مؤسسة جامعية منتخب من لدن الأساتذة الباحثين بنفس المؤسسة، وهذا وحده يحتاج لنقاش خاص به، وأيضا من حيث الجدوى العملية والسياسية لاستمرار تواجد رئيس مجلس العمالة أو الإقليم الذي يوجد بدائرة نفوذه الترابي مقر الجامعة.

لكن الذي يثير عدة ملاحظات هو مجلس الأمناء الذي تم استحداثه في مشروع القانون الحالي أول مرة، إذ بقراءة سريعة لتشكيلته ومهامه يبدو أنه أتى لغرض وحيد وأوحد هو تجريد مجلس الجامعة من السلط والصلاحيات التي يتمتع بها في إطار القانون الحالي رقم 01.00 المذكور آنفا. وهكذا، وبالعودة إلى تشكيلة وتركيبة مجلس الأمناء الذي أتى به مشروع القانون الجديد، وهي المحددة بموجب المادة 30 من هذا المشروع، فإنها تدفع لطرح جملة من الملاحظات تهم أساسا تركيبة هذا المجلس ومهامه الإدارية و"البيداغوجية"، صحيح أن المهام البيداغوجية غير معلن عنها بشكل علني وصريح، إلا أنه في المقابل من ذلك ليس هناك ما يمنعه من الناحية القانونية، من التدخل في "الشأن البيداغوجي"، وهذه الفرضية ممكن استنباطها من منطوق المادة 30 الفقرة ما قبل الأخيرة، التي أعطت لمجلس الأمناء إمكانية إحداث لجان موضوعاتية مؤقتة أو دائمة داخل نظامه الداخلي، تساعده على أداء المهام المسندة إليه. وعليه، ليس هناك ما يمنعه قانونا من أن يحدث لجنة موضوعاتية تختص بالنظر في القضايا البيداغوجية التي هي من اختصاصات مجلس الجامعة ومجلس الكلية (سابقاً).

ومن جهة أخرى؛ هناك تساؤل يفرض نفسه بخصوص أعضاء ورئيس مجلس الأمناء والسلطة التي تقوم بتعيينهم، ذلك لأن أغلب مكوناته إن لم نقل كلها سيتم استقدامها من خارج فضاءات المؤسسات الجامعية التابعة للجامعة المعنية، ومن خارج سلك الأساتذة الباحثون بالجامعة بجميع درجاتهم وتخصصاتهم، مع حق رئيسه في دعوة، ولو على سبيل الاستشارة، كل شخص يرى فائدة من مشاركته في أشغال المجلس، اللهم إذا استثنينا تواجد أستاذ للتعليم العالي ضمن تركيبته يتم انتخابه من قبل ومن بين الأساتذة أعضاء مجلس الجامعة وانتخاب ممثل عن فئة الأطر الإدارية والتقنية طبقا للمادة 30 منه. وفي نفس السياق، المرتبط بمجلس الأمناء، صحيح أن القانون الحالي أكد على حضور رئيس الجامعة ضمن اجتماعات هذا المجلس، لكن الغريب في الأمر هو أن حضوره هذا يكون بشكل استشاري فقط، طبقا لما هو منصوص عليه في المادة 30 من المشروع الجديد، أي أن تواجد رئيس الجامعة ليس من باب التقرير وإبداء رأي يكون ملزما، بل إن حضوره بصريح العبارة وبقوة القانون يبقى شكليا وصوريا.

 ومما يزيد من عدم التناسق وغياب الانسجام بين بعض مواد هذا المشروع هو أن مجلس الأمناء المستحدث، تترأسه شخصية من خارج الجامعة ومؤسساتها لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرتين، طبقا للمادة 31 من المشروع، وهنا يطرح تساؤل جوهري بخصوص الهدف والغاية من عدم إسناد رئاسته مثلا لأساتذة الجامعة عن طريق الانتخاب وفق شروط ومعايير محددة، لأنه حتى لو ترأسته شخصية مشهود لها والكفاءة العلمية والخبرة في مجال التدبير العمومي من خارج المجال الجامعي، فذلك ليس معناه بالضرورة أن هذه الشخصية لها إلمام ودراية كافيتين بتدبير الشأن الأكاديمي والجامعي الذي له خصوصياته في مجالي التدبير الإداري والبيداغوجي، هذا من حيث عضوية ورئاسة مجلس الأمناء. أما من حيث مدة الانتداب، ففي الوقت الذي تم حصر مدة انتداب رئيس الجامعة في أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة بموجب المادة 40، نجد أن مدة انتداب مجلس الأمناء تبقى أطول من حيث المدة الزمنية المخصصة لرئيس الجامعة، حيث نجد أن مدة رئيس مجلس الأمناء هي أربع سنوات قابلة للتجديد مرتين (المادة 31)، أي أنه في الوقت الذي قَيَّدَ فيه المشروع من فترة انتداب رئيس الجامعة وَسَّعَ في المقابل من ذلك من فترة انتداب رئيس مجلس الأمناء على مستوى الجامعة.

أما في الجانب المتعلق بمهام مجلس الأمناء، فإن الإشكالية تبدو أكثر تعقيدا، سيما إذا ما علمنا أن من مهام وصلاحيات مجلس الأمناء المنصوص عليها في المادة 35 هو إعداد تقرير سنوي حول أداء الجامعة يرفعه لرئيس الحكومة مشفوعا بتوصياته وملاحظاته، وهذه الصلاحية من غير المستبعد أن تجعل رؤساء الجامعات يقعون تحت تبعية وضغط هذا المجلس بالشكل الذي قد يفقدهم الاستقلالية والحرية، فضلا عن كونه يتولى، بموجب المادة 34 مهاما لها صبغة تدبيرية و"بيداغوجية"، بمبرر الانسجام مع السياسات العمومية في مجالات التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، ونذكر على سبيل المثال فقط، أنه يصادق على الاستراتيجية المتعددة السنوات الرامية لتطوير الجامعة وتقييم حصيلة أنشطتها والمصادقة على برنامج عمل السنة الموالية، ويبدي برأيه في تعيين رؤساء المؤسسات التابعة للجامعات (...).

وهنا يبدو وكأن، المواد من 30 إلى 35  وهي المواد التي تحدد تركيبة ومهام مجلس الأمناء ومدة انتدابه، جاءت خصيصا لهدم وتقويض مبدأ الاستقلالية الإدارية والمالية المنصوص عليه في المادة 9 من المشروع المذكور، وقصد افراغ مبدأ الاستقلالية البيداغوجية والعلمية والثقافية المنصوص عليه في المادة 10 من مضمونه وفلسفته العامة، ذلك أنه يبقى الأسلم هو أن يتولى مجلس الجامعة الذي يضم ثلاثة ممثلين يمثلون مختلف فئات ودرجات الأساتذة الباحثين في المؤسسات التابعة للجامعة، وبعض الفئات من الأوساط المهنية، الاقتصادية والإدارية مع إمكانية تطويره، (يتولى) مهام التقرير في المسائل الإدارية والبيداغوجية.
 
عبد الغني السرار/ أستاذ العلوم السياسية بكلية الحقوق بالجديدة