عبد السلام بنعبد العالي: فوضى من أجل "نظام" عالمي مغاير

عبد السلام بنعبد العالي: فوضى من أجل "نظام" عالمي مغاير عبد السلام بنعبد العالي

عالم قديم يموت، وعالم جديد تأخر في الظهور، وفي خضم هذا النور الغامض ينبعث ما يرعب".. أنطونيو غرامشي

لا يظهر أن الصورة التي التقطت لاجتماع الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالقادة الأوروبيين، رغم ما يطبعها من فوضى وعدم "انتظام"، صورة اعتباطية. إنها، ككل الصور في هذا الشأن، صورة مدروسة بالعناية المناسبة. وهي تعرض علينا مشهدين مختلفين متمايزين تمام التمايز، تفصلهما عبارة كتبت بحروف بارزة: "السلام عن طريق القوة".

 

"فوق" هذه العبارة جهة الرئيس جالسا من وراء مكتبه على أريكة مريحة، محاطا بديكور يمثل هيبة السلطة، مشحون حدّ الإشباع، بالرموز والأعلام والميداليات والكؤوس، بما فيها تلك التي "انتزعها" من فريق تشيلسي الذي ينتمي إلى إحدى الدول الأوروبية، والذي كان انتصر أخيرا في كأس العالم للأندية على باريس سان جرمان. وضع هذه الكأس أمام عيون القادة الأوروبيين في الواجهة، لا يبدو أمرا اعتباطيا. وربما هو نوع من التذكير بأن "حصاد" القارة العجوز، لا بد وأن يصل في نهاية المطاف إلى القارة الجديدة. وأن القارة الجديدة هي المؤهلة لكل انتصار، وهي المصب والمنتهى في الأحوال جميعها.

 

"تحت" العبارة، تمثل الجهة الأخرى القادة الأوروبيين "مبعثرين" على كراسي لا تليق بمقامهم. في هيئة تذكرنا بأقسام الدراسة في الثانوية حيث كنا نجلب كراسينا من الأقسام المجاورة فنجلس كيفما تأتى لنا. لا انتظام ولا شكل يجمع القادة الأوروبيين في كل موحد، اللهم إلا "التفافهم" حول مكتب الرئيس، وانتباههم، الذي تطبعه مسحة من الاندهاش، لما قد يصدر عنه، كأنهم تلاميذ ينتظرون نتيجة الامتحان.

 

والواقع أن مناخ الفصل الدراسي، وعلاقة المعلم بالتلاميذ، يهيمنان على الصورة في مختلف جزئياتها. حتى السبورة تعوض هنا بخريطة كبرى لا شك أن المعلم ترمب وظفها كوسيلة من "وسائل الإيضاح"، كما نقول في فصولنا الدراسية، خصوصا وأن موضوع الاجتماع ليس بعيدا عن الجغرافيا وضبط حدود الدول. لكنها جغرافيا العالم الجديد، الذي تساوم فيه الأوطان والحدود، والذي يعهد فيه رسمها إلى من يحكمون العالم، ويفرضون "النظام"، حتى إن كان لا بد أن يتولد عن فوضى عارمة.

 

لا انتظام ولا شكل يجمع القادة الأوروبيين في كل موحد، اللهم إلا "التفافهم" حول مكتب الرئيس، وانتباههم، الذي تطبعه مسحة من الاندهاش، لما قد يصدر عنه، كأنهم تلاميذ ينتظرون نتيجة الامتحان

تبعثر الضيوف الأوروبيين يحول بيننا وبين أن نركز النظر والاهتمام عليهم، لنضبط من حضر منهم ومن غاب، من حضر بنفسه ومن أناب عنه ممثله. كأنما لا يهم كثيرا تعذر حضور من غاب منهم. فأنظارنا سرعان ما تنجذب توا نحو مركز الصورة وبؤرتها. كأن الأمور رتبت بحيث تجعل من الرئيس ومكتبه المركز بإطلاق.

 

ومع ذلك، فإن هذا لا يمنعنا من إدراك اكتظاظ القاعة، لا بعدد من يلتفون حول مكتبها فحسب، وإنما بما يزينها و"يؤثثها". لكن كل ما يؤثتها يدل على تفوق وانتصارات، وعلى "مكانة" من يعتلي الكرسي وراء المكتب. لا عجب أن يتملك الضيوف الزوار إحساس لا بالتخوف، وإنما بأنهم لم يعودوا "في المستوى"، أو على الأقل، أنهم دون مستوى فخامة هذه القاعة رغم صغرها، وإزاء ما يشع على صاحبها من قوة و"هيبة". إنهم مثل أولئك التلاميذ الذين لا يواكبون سير الدرس، فيتوارون خلف القاعة كي يختفوا عن أنظار معلمهم وزملائهم.

 

ربما من أجل ذلك فإن التراتبية بين "الجهتين" لا توحي لنا بأن الأمر يتعلق بـ"تبادل للآراء"، بقدر ما تشعرنا بأنه يتعلق بتلقي أوامر. ولعل في أوضاع الجالسين أمام مكتب الرئاسة، والغارقين في كراسيهم، ما يؤكد ذلك. وعلى أي حال، فالأمر لا يتعلق في هذا اللقاء بنسج خيوط سلام، مع ما يتطلبه ذلك من حوار وتشاور، وإنما، كما تقول العبارة، بفرض "السلام عن طريق القوة".

 

عبارة "السلام عن طريق القوة" هذه، ليست "شعارا" مثل الشعارات التي عادة ما تؤثث المؤتمرات واللقاءات، وإنما هي عبارة متفجرة، تجمع بين الضدين كتلك التي يحلو للإدارة الأميركية عادة أن تطلقها في إطار "صناعة" الرأي العام العالمي مثل عبارة "الفوضى الخلاقة" ومثيلاتها. هذه العبارات لا "تبلغ" رسائل، وإنما تصدر أوامر. إنها تحول اللغة من "ناقل" إلى ناقلة جنود". فكأنها تتوجه إلى قارئها لتخيره بين أمرين: إما السلام، وإما القوة. تلك هي فاشية اللغة التي تحدث عنها بارت.

 

 

هناك سلطة تتكلم من موقعها الجغرافي والاستراتيجي، سلطة في "بيتها"، وهو بيت يعج قوة ورموزا وذكريات وألوانا، رغم بياضه. ثم هناك الضيوف المنصتون لما يقال

نفهم الآن هندسة المكتب الذي يضم القادة، ومضمون الصورتين المتقابلتين. إن الأمور رتبت وفق محتوى العبارة المعلنة. عبارة "السلام عن طريق القوة" هي عنوان الصورة وعنوان اللقاء وعنوان الوضع السياسي العالمي بأكمله. فتوزع الجالسين في هذه القاعة وما يسودها من تراتبية واضحة، يعكسان بالضبط محتوى العبارة: هناك سلطة تتكلم من موقعها الجغرافي والاستراتيجي، سلطة في "بيتها"، إذ نحن، كما هو معلن في الصورة في ضيافة البيت الأبيض، وهو بيت يعج قوة ورموزا وذكريات وألوانا، رغم بياضه. ثم هناك الضيوف المنصتون لما يقال، وهم يجلسون، مثل تلاميذ لا يحترمون نظام القسم، أمام مكتب من يصدر عنه الكلام يحدوهم الأمل في أن لا يحول هذا الكلام إلى قوة.

وما دمنا في سياق مدرسي، ربما من الطبيعي أن نتساءل: أين المدير؟ صحيح أن المدير لا يحضر قاعة الدرس إلا في حالات خاصة، إلا أنه هو الذي يحدد في نهاية الأمر ما يتعين على المعلم أن يقوله، أو لا يقوله، داخل قاعة الدرس، حتى إن ظل هو غائبا "يدير خيوط اللعبة" من بعيد.

 " عن مجلة المجلة"