"نَفَسُ الله" في رئة الذاكرة: تأملات في المعنى والهوية والمصالحة

"نَفَسُ الله" في رئة الذاكرة: تأملات في المعنى والهوية والمصالحة سعيد رباعي وغلاف الرواية

تأتي رواية "نَفَس الله" لعبد السلام بوطيب الصادر عن دار النشر النورس، ضمن التجارب السردية المغربية المعاصرة التي تنفتح على إشكالات الذاكرة والهوية والمصالحة مع التاريخ الشخصي والجماعي، عبر حبكة تتقاطع فيها السيرة الذاتية بالتخييل، وتبرز من خلالها أسئلة فلسفية حول النسيان، والعدالة الانتقالية، وفقدان الذات. يجد القارئ نفسه، منذ الصفحات الأولى، أمام نص يتجاوز البنية الكلاسيكية للرواية، متكئًا على وعي سردي يجعل الحكاية نفسها موضوعًا للتأمل والنقاش، كما يمثل لذلك حضور شخصية "جُلْجُل" بوصفها تجسيدًا رمزيًا لحارس اللغة، ومرآة للكاتب وهو يختبر حدود السرد واللغة وقدرته على كشف الحقيقة وبسطها.

تطرح الرواية، من خلال بطلها "أحمد" الذي فقد ذاكرته، أسئلة عميقة عن معنى الذاكرة كقوة وجودية تُبقي على الإنسان متصلًا بجذوره، وعن دور النسيان كحيلة للنجاة أو كقدر ثقيل ينسف ثوابت الهوية. هذا الاشتباك بين الذاكرة والنسيان ليس ثيمة مركزية فقط، بل هو بنية محركة للحبكة السردية التي تتقاطع مع أحداث سياسية واجتماعية كبرى، بدءًا من تحولات العالم العربي مع ما سُمّي بـ "الربيع العربي"، وصولًا إلى زمن الجائحة (كوفيد-19)، ما يمنح النص بعدًا تاريخيًا مواكبًا لعصرنا الراهن.

تمثل رواية "نَفَس الله" مختبرًا لعدد من القضايا الجمالية والميتاسردية، حيث تتقاطع البنية التجريبية (الفصول المرقمة بالأرقام والحروف) مع مقاطع أشبه بالحوارات الفلسفية بين الكاتب و"جُلْجُل"، وهو ما يكشف عن وعي النص بذاته.

 

العنوان والعتبات النصية

يمثل عنوان الرواية "نَفَس الله" مدخلًا دلاليًا مكثفًا يفتح النص على أفق روحي وتأملي. هنا ليس "النَفَس" مجرد شهيق وزفير، بل هو استعارة للروح الإلهية التي تمنح الحياة وتعيد تشكيل المعنى. يضعنا العنوان منذ البدء أمام سؤال: هل يتعلق الأمر بإرادة إلهية تهيمن على مصائر الشخصيات، أم بإرادة الكاتب في التنقيب عن ذلك "النَفَس" الخفي الذي يربط الذاكرة بالحياة؟
يمكن النظر إلى العنوان باعتباره إشارة مزدوجة: نَفَس بمعنى "الزمن القصير" الذي تحيا فيه الشخصيات وسط الفقد، ونَفَس بمعنى "الأمل والحياة" التي تظل باقية رغم العتمة. كما أن الإهداء والاقتباسات التي تسبق الرواية (يانكلفتش، بول ريكور، عبد القادر الشاوي) تؤكد أن العمل ينفتح على إطار فكري يتعلق بالذاكرة والتاريخ والنسيان. فاقتباس ريكور حول "الذاكرة، التاريخ، النسيان" يُعد مفتاحًا لتأويل النص، إذ يشير إلى أن الرواية لا تُعنى فقط باستعادة الماضي، بل بتحويله إلى سؤال وجودي وفكري، كما يظهر في شخصية "أحمد" الباحث عن ذاته الضائعة.

من جهة أخرى، يمكن اعتبار حضور هذه العتبات بمثابة إعلان عن التقاطع بين السرد والفكر، حيث لا تكتفي الرواية بنسج حكاية، بل تدعو القارئ إلى تأمل قضايا فلسفية وأخلاقية متعلقة بالماضي والهوية والتاريخ.

 

البنية السردية وتعدد الأصوات في الرواية

تقوم رواية "نَفَس الله" على تداخل نوعين من الفصول: الفصول المرقمة بالأرقام وهي تمثل العمود الفقري للرواية، وتغطي مسار البطل أحمد، المؤرخ والخبير في العدالة الانتقالية، في رحلة البحث عن ذاته الضائعة. والفصول الموسومة بالحروف وهي عبارة عن مقاطع حوارية ميتاسردية بين الكاتب أو الراوي الضمني وكائن هلامي يدعى "جُلْجُل"، ينبعث من "منجد الطلّاب". هذه الفصول أشبه بمرايا داخلية للنص، حيث تنكسر الحكاية الرئيسية أمام صدى أسئلة حول اللغة، الهوية، ومعنى الكتابة.

يعكس هذا التقسيم المزدوج مستويين للسرد: مستوى الحكاية الواقعية (مصائر الشخصيات)، ومستوى ميتاسردي يتأمل في فعل الكتابة ذاته. وتتيح هذه الاستراتيجية تعددًا في طبقات المعنى، حيث نقرأ النص كرواية، وكتأمل في صناعة الرواية نفسها.

ينفتح النص، من جهة أخرى، على تعدد واضح في الأصوات السردية، على نحو يذكرنا بمفهوم "تعددية الأصوات" لدى باختين. فهناك أصوات رئيسية:

صوت أحمد: هو الصوت الداخلي الأكثر حضورًا، يروي فقدان ذاكرته منذ 1976، ويتأمل في معنى الذاكرة والانتماء. يمثل نموذج الإنسان الذي تمزقه الهوية المزدوجة، بين الوطن الذي نسيه والغرب الذي صار انتماءً جديدًا له. ليس أحمد مجرد بطل روائي، بل هو رمز للذاكرة المفقودة في سياق سياسي واجتماعي مضطرب. فهو، منذ بداية الرواية، يظهر كإنسان تائه فقد جذوره، يعمل كمهتم بالتاريخ رغم أنه فاقد لذاكرته الخاصة. تضيف هذه المفارقة عمقًا فلسفيًا للرواية، إذ تشير إلى أن من فقد ذاكرته قد يصبح أقدر على فهم آلام ذاكرة الآخرين لأنه يقاربها من موقع الحياد والانكسار في آن واحد.

يتجلى في شخصية أحمد البعد التراجيدي، فهو موزع بين حنينه إلى الناظور ووعي حاد باغترابه. يتنقل بين الحانة وفضاءات أمستردام، وبين ماضيه المجهول وحاضره القلق، كمن يعيش على حدود الزمن.

 

صوت "جُلْجُل": يمثل "اللغة" ذاتها في بعديها الحارس والناقد. يظهر هذا الكائن بوصفه سلطة ميتاسردية تسائل الكاتب وتواجهه حول سلامة العربية، ليكشف لنا عن صراع خفي بين اللغة الحية واللغة المعيارية. جُلْجُل" شخصية فريدة في الرواية، ليست بشرية بل كائن متخيل ينفلت من صفحات "منجد الطلّاب" ليخاطب الكاتب مباشرة. يمكن اعتباره تجسيدًا للغة العربية في شكلها الكلاسيكي الصارم، كما يمكن قراءته بوصفه "ضمير الرواية" أو "الصوت الرقيب" الذي يذكّر الكاتب بالقيم والحدود، وتتمثل وظيفته الميتاسردية في تدخلاته التي تقطع مجرى السرد الواقعي، لتفتح حوارًا حول دور اللغة، الكتابة، والهوية. وهنا يبرز سؤال النص: هل الكتابة إبداع أم تقيد بقواعد سابقة؟ وهل يمكن للهوية أن تنفلت من سطوة اللغة؟

هذا التفاعل بين أحمد (الذاكرة الضائعة) وجُلْجُل (اللغة الحارسة) ينتج توترًا جماليًا يعكس طبيعة الرواية كفضاء للصراع بين النسيان والتذكر، بين الحاضر والذاكرة الجمعية في إطار المشروع العام الحقوقي والسياسي الذي انخرط فيه الكاتب في إطار مرحلة انتقالية عميقة في مجال العدالة الانتقالية. لا تنفصل قصة أحمد عن حضور جُلْجُل، بل يمكن القول إن جُلْجُل هو "شخصية ميتاروائية" تتدخل لإبطاء وتيرة السرد أو تسريعها، أو لإعادة القارئ إلى سؤال النص عن نفسه. يمنح هذا التوازي الرواية بعدًا ما بعد حداثي، حيث تتفكك الحكاية التقليدية لصالح وعي بالنص كخطاب.

ثم هناك أصوات ثانوية: نلمح أصوات الخوارج، إدريس، خالد، وشخصيات أخرى تتداخل مع السرد لتعكس أصداء مختلفة للهوية، المنفى، والذاكرة. وهذه الأصوات ليست هامشية بقدر ما تشكل "كورالًا سرديًا" يغني ثيمة النسيان.

 

الذاكرة كفضاء سردي والنسيان كحيلة سردية

ليست الذاكرة في رواية "نَفَس الله" مجرد أداة سردية، بل هي المنطق العميق الذي ينظّم النص، ففقدان أحمد لذاكرته يحول السرد إلى رحلة بحث عن الذات، لكنها رحلة تتجاوز المستوى الفردي لتطرح سؤالًا جماعيًا: هل يمكن لمجتمعٍ أن يتعافى من ماضيه الموجع دون مواجهة ذاكرته؟ أحمد، بوصفه مؤرخًا وخبيرًا في العدالة الانتقالية، يعيش مفارقة وجودية: تقوم مهمته المهنية على استعادة ذاكرة الضحايا والتاريخ، بينما هو نفسه محروم من ذاكرته الشخصية. هذه المفارقة تجعل من شخصيته رمزًا لـ "الذاكرة الجريحة" التي تتأرجح بين الحاجة إلى التذكر والرغبة في النسيان.

إن النسيان في الرواية ليس مجرد فقدان طبيعي للذاكرة، بل هو اختيار أو قدر، يظهر النص في عدة مقاطع وكأنه يدافع عن فكرة أن النسيان الواعي قد يكون أحيانًا شرطًا لبناء مستقبل جديد، كما في الإهداء الذي يقول:
"
إلى مَنِ اختارَ النِّسْيانَ الحَكيمَ لِيَمْنَحَ المُسْتَقْبَلَ ذاكِرَةً أُخْرَى."

يبدو أن عبد السلام بوطيب يستلهم هنا أفكار بول ريكور حول العلاقة المعقدة بين الذاكرة، التاريخ، والنسيان. فالرواية تسائل جدوى الاستغراق في الماضي، خاصة في سياق المجتمعات التي شهدت قمعًا أو عنفًا سياسيًا. عبر شخصية أحمد، تتضح رؤية الرواية: النسيان ليس موتًا بل إعادة تأويل للذاكرة.

 

العدالة الانتقالية كخلفية سردية

تشتبك الرواية بشكل غير مباشر مع ملف العدالة الانتقالية في المغرب، من خلال عمل أحمد كخبير في هذا المجال. غير أن النص لا يعرض الوقائع بشكل تقريري، بل يجعل منها خلفية رمزية لحكاية فقدان الهوية. أحمد كمعالج نفسي جماعي رغم فقدانه لذاكرته، يقود جلسات جماعية للضحايا، مما يعكس قدرة النص على المزاوجة بين البعد النفسي والبعد السياسي. لا يمكن فصل ذاكرة أحمد عن هويته، فهو يعيش حالة من "انعدام الأصل"، لا يعرف من ماضيه العائلي سوى اسم أخته التوأم "تليماس"، وهو اسم دال على الرغبة في البقاء بعد فقد الإخوة. يحمل جنسية هولندية، لكنه يشعر بغربة مزدوجة: غربة في الماضي وغربة في الحاضر. هذه الوضعية تجعل من أحمد مرآة للمغتربين الذين فقدوا الرابط بين ذاكرة المكان الأصلي والهوية الجديدة، وهو ما يتقاطع مع قضايا الهجرة والمنفى في السرد المغربي المعاصر.

يلفت النص الانتباه إلى صمت النساء، سواء أخوات أحمد أو النساء اللواتي ينتظرن الغائبين، في إشارة إلى أن الذاكرة النسائية هي الذاكرة الأعمق والأكثر ألمًا.

تتبنى رواية "نفس الله" رؤية فلسفية ترى أن النسيان ليس عجزًا بل قدرة على التحرر من "ديكتاتورية الذاكرة"، من خلال الحوارات الميتاسردية، يظهر "جُلْجُل" أحيانًا كحارس للغة والذاكرة، وأحيانًا كمن يشكك في جدوى الاستغراق في الماضي. هذه الجدلية تمنح الرواية طابعًا وجوديًا يجعل القارئ يتأمل في معنى أن نتذكر أو ننسى.

 

جمالية اللغة كحارس للذاكرة والميتاسرد كاستراتيجية جمالية

تتميز رواية "نَفَس الله" بلغة ذات كثافة شعرية، تمزج بين الاقتصاد في التعبير والإيحاء الرمزي. اللغة هنا ليست مجرد أداة سردية بل كائن حي يشارك في صناعة المعنى وتشكيل هوية الشخصيات. وفي هذا السياق، تبرز شخصية "جُلْجُل" كصوت حارس للغة، يذكّر الكاتب بقدسية العربية، ويخوض حوارًا معها بوصفها جسد النص وروحه.

تدرك الرواية أن اللغة ليست محايدة، فهي تحمل أثر التاريخ والذاكرة، وكل محاولة لترويضها أو تبسيطها تعني فقدان جزء من الهوية. وهذا ما نلمسه في تدخلات "جُلْجُل" حين ينتقد السرد أو يراجع التعبيرات، وكأنه يراقب جمالية النص وانسجامه.

 

يُعد الميتاسرد من أبرز سمات النص، إذ يتوقف السرد أحيانًا ليناقش فعل الكتابة نفسه، مقاطع "جُلْجُل" ليست مجرد فواصل لغوية بل مقاطع "حوار داخلي" بين الكاتب ولغته، بين الراوي وحكايته، حيث تتبدد الحدود بين الخيال والواقع. يبدو "جُلْجُل" في هذه المقاطع، كأنّه ضمير الرواية، يسائل الكاتب: لماذا تكتب؟ ماذا يعني أن تحكي؟ وهل يمكن للحكاية أن تفي بوعد الذاكرة؟ هذا الوعي الذاتي بالنص يجعل من الرواية مختبرًا للتفكير في السرد ذاته، وهو منحى حداثي.

تستند رواية عبد السلام بوطيب إلى لغة مشبعة بالمجاز، حيث تتحول التفاصيل اليومية إلى رموز عميقة. على سبيل المثال، توظف استعارات الضوء والظل، الغياب والحضور، لخلق لغة تستبطن فلسفة السفر والتيه، الجمل غالبًا قصيرة، لكنها مكثفة ومشحونة بالإيحاء، هذه الشعرية لا تُقحم نفسها على النص، بل تأتي كجزء من طبيعة السرد الذي يعبر عن أزمة الهوية والاغتراب. فحين يتحدث أحمد عن ماضيه المفقود، تصبح اللغة نفسها مرايا مشوشة تحاول التقاط صورة الذات.

إن "نَفَس الله" ليست مجرد حكاية بطل فاقد للذاكرة، بل هي تجربة سردية عن معنى أن تكون إنسانًا في عالم سريع النسيان، وتجربة وجودية عن مجتمع يحاول المصالحة مع ماضيه من أجل ألا يكرره، وألا يصبح معيقا لمستقبله.