نعلّق قلوبنا على خيط هش من الأمل ونخاطب ذواتنا بخداع رقيق: "سيتغيّر يوماً ما"، "سيدرك قيمتي حين يفوّتني"، "سيصحو فجأة على محبتي". لكن الحقيقة أكثر قسوة وبساطة: من لا يريد أن يتغير، لن يتغير أبدا....
الإنسان كائن يتشبث بالآخر كخشبة نجاة في بحر الوجود، حتى ولو كانت تلك الخشبة مكسورة. يخشى أن يغرق في الوحدة، فيقبل بالغرق البطيء في علاقة متآكلة، على أمل أن تُصلحه المعجزة. غير أن المعجزات لا تسكن القلوب التي أغلقت أبوابها، ولا تتنزل على من لم يشأ التغيير من ذاته.
ثقافتنا بدورها تبارك هذا الصبر المرهق، وتبارك التضحية حتى ولو كانت على حساب الروح. نُمجّد القدرة على الاحتمال، ونعتبر الانسحاب ضعفاً وخيانة، بينما نُعلي من شأن الصبر على الأذى وكأنه فضيلة. وهكذا نحيا أسرى قيمٍ تجعلنا أوفياء للآخرين وخائنين لأنفسنا.
لكن في العمق، هذا التبرير المستمر ليس إلا شكلاً من أشكال الاغتراب. فالإنسان، وهو يكدّس الأعذار، يغترب عن صوته الداخلي، عن حدسه الصافي، عن كرامته التي تذبل بصمت. إننا نعيش بين واقع يجرحنا وأمل يُخدّرنا، فلا نحن واجهنا الحقيقة، ولا نحن ارتحنا في الوهم.
العلاقات التي تُبنى على الأمل في التغيير تشبه بيوتاً على الرمال، تنهار عند أول موجة صدق. فما لم يُبْنَ على القبول والاعتراف والوضوح، لن يقوم على قدمٍ ثابتة. والحب الحقيقي لا يُبرّر، بل يُواجه؛ لا يُطفئ الصوت الناقد في داخلنا، بل يُصغي إليه باحترام.
ولعلّ أعظم درس نتعلمه أن الوفاء لا يعني أن نظل واقفين في قلب العاصفة، بل أن نحمي ذواتنا من الانكسار. الوفاء ليس صبراً على الأذى، بل هو صبرٌ على بناء أنفسنا، على أن نكون أوفياء لجوهرنا قبل أي أحد.
فالحياة لا تنتظر من يتعلق بالوهم، بل تمنح قوتها لمن امتلك شجاعة أن يقول: "كفى".