عبد الرحيم بوعيدة: وجع المقارنات..

عبد الرحيم بوعيدة: وجع المقارنات.. عبد الرحيم بوعيدة
جربت الغربة ذات يوم.. لم تكن نزوة ولا رغبة شخصية.. كانت امتثالاً لوصية والدي رحمه الله.. وكانت أول محطة لي هي مصر.. أم الدنيا كما يصرّ المصريون على تسميتها..
ست سنوات هناك.. علّمتني كيف يربّي النيل أبناءه على الصبر والانتماء.. كيف يعلو صوت الثقافة في دار الأوبرا والصالونات الفكرية.. لكنني، رغم حبي لمصر، كنت أرى وطني أجمل.. أكثر نظافة.. أكثر رقيّاً.. لم يكن الأمر تعصّباً.. كان حقيقة يلمسها القلب قبل العين..
ثم عبرت الأعوام.. وها أنا اليوم أختار غربة أخرى.. غربة سياحية لا أكثر.. بيننا وبين جارة على مرمى حجر..
لكني ما زلت أنا.. المهووس بالمقارنات.. أفسد عطلتي القصيرة بالأسئلة..
ليتني كنت جاهلاً لأستمتع بلا تفاصيل.. لكن العقل عقوبة.. والشاعر صدق حين قال:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم..
أكثر ما يوجعني أن ما يفصلنا عنهم ليس البحر.. البحر الذي يحلم شبابنا بعبوره نحو جنّة موهومة..
ما يفصلنا أعمق.. ثقافة.. وعي.. مواطنة حقيقية لا تحتاج إلى شعارات.. مواطنة تحب الوطن بقدر ما يعطيها الوطن..
هؤلاء ليسوا معجزات بشرية.. هم فقط مواطنون لم يخونوا حبهم لبلدهم.. لا يرمون النفايات من نوافذ سياراتهم.. لا يكسرون الكراسي.. لا يساومون على عطلة أو مناسبة..
كل شيء واضح.. الأسعار مكتوبة.. الصدق معلّق على الأبواب.. لا يحتاج إلى مترجم.. ولا إلى لغة..
على البحر.. لا كرة تطير فوق رأسك.. ولا صخب يشوّه المشهد.. هناك فقط كتب تُفتَح.. وصفحات تُقلب.. وصمت يليق بالبحر..
أما نحن.. فقد خسرنا حتى القراءة.. مدارسنا وجامعاتنا تحوّلت إلى مختبر للتجارب.. كل مسؤول يجرب وصفته على أبنائنا ثم يرحل..
بينما هنا.. لا شيء اسمه مدرسة خاصة أو مصحة استثنائية.. كل شيء عمومي ومتاح للجميع.. حتى للسائح.. بلا شيكات ضمان ولا تسبيق..
أحياناً أعاتب نفسي.. لماذا أحمّل همّاً بحجم الوطن وأنا في إجازة قصيرة مع بناتي..؟
لكنّي أكتشف أن الهم لا يتركني.. يطاردني كظلّي.. فأعيد لازمتنا المغربية في داخلي: وأنا مالي..؟
لكنني في العمق أعرف أنني معني.. أعرف أن وطني يملك كل شيء ليكون مثل إسبانيا.. يملك البحر نفسه.. المناخ نفسه.. الروح نفسها.. فكيف صرنا نسخة ناقصة من أنفسنا..؟
لن أختزل الجرح في سطور.. ولن أُحمّل المسؤولية لرجل واحد أو حزب بعينه.. كلنا مذنبون..
أضعنا وقت التنمية في استثمار طويل الأمد في الجهل والفقر.. وتركنا الأحزاب تحوّل البلاد إلى درجٍ للصعود نحو الكراسي..
أهدرنا المال العام حتى آخر درهم.. وجئنا اليوم بحكومة لا ترى فينا مواطنين.. بل زبائن.. تبيع لنا الهواء والماء..
أما هنا.. فلا وزير يُعرَف.. ولا رئيس حكومة يبيعك الوهم.. المواطن هو السيّد.. والبلد له.. يصوت على البرامج لا على الولائم..
هنا الناس يحبون أوطانهم بصمت.. بصوت القانون.. بلا شعارات تملأ الشاشات..
هنا السياحة صدق.. جودة.. احترام.. لا نصب.. لا تضخيم للأرقام..
فهل صار الحلم مستحيلاً عندنا..؟
2026 يجب أن تكون سنة الحسم.. سنة انبلاج الفجر لمغرب آخر.. مغرب جميل بنظافة اليد قبل جمال الطبيعة.. مغرب بنخب لا تسرق.. بحكومة لا ترى فينا مجرد جيوب مفتوحة..
مغرب يختفي فيه كل من حمل نية الاغتناء على حساب الوطن.. ويعلو فيه صوت الكفاءة على أصوات المحسوبية..
الخلاصة أننا نحتاج إلى حكومة إنقاذ.. إلى رجال دولة ونساء دولة.. إلى برلمان يغدو الغياب عنه أشرف من الحضور فيه..
وختاماً.. نحتاج إلى صرخة.. 
صرخة تُسمِع كل فاسد: ابتعد.. هذا وطن لم يعد يتّسع لخيانتك…