عبد الخالق حسين: عندما قابلت شيخ الزاوية البودشيشية

عبد الخالق حسين: عندما قابلت شيخ الزاوية البودشيشية الراحل جمال الدين القادري بودشيش وعبد الخالق حسين
1 - بادئ ذي بدء؛ رحم الله العارف بالله سيدي جمال، ابن العارف بالله سيدي حمزة، ابن العارف بالله سيدي العباس، رضي الله عنهم أجمعين.
 
2-دعوني أصارحكم بأحد أشد الإكراهات سطوة على المثقف اليوم؛ وهو إكراه العقلانية المادية الأحادية الاختزالية، المستهزئة بكل ما هو روحي ومعنوي.
فلكي تكون "عقلانيًا" معترفًا بك في "ناديهم"، عليك أن تتستر وراء الكثير من النفاق، والحذلقة اللغوية الفرنجية، ضِدًّا على استقلاليتك وإبداعيتك وخصوصيتك وهويتك، بل وكشوفاتك وفتوحاتك.
كن ضد وجودك وحضورك، لتبدو عقلانيًّا في أعينهم!
هذا "الذوبان في الغير" وفقدان الحرية الذاتية، يعتبره أهل التصوف المدخل الأكبر للشرك.
فحرر نفسك من رؤية الغير والأغيار، لتجد نفسك أولًا، وبها ستجد ربك أخيرًا.
سوف أصارحكم من الآن: "لست عقلانيًّا" تحت هذا السقف، بل إنني "عقلاني" عقلانيةً فوق العقلانية المجردة، وبتعبير الفيلسوف طه عبد الرحمن: عقلانيٌّ بعقلانية مؤيَّدة!
فأنا "حبيت (من الحبو) على الأرض على ركابيا // وقرّيت لي قرّيت بحال قرآني"، على حد تعبير جيل جيلالة في رائعتهم: "يادوك اللايمين".
3- دخلتُ ثانوية محمد الخامس بمدينة طانطان سنة 1989، وكنتُ نشيطًا في الأندية الثقافية وإلقاء المحاضرات.
وسنة 1991، في شهر فبراير، تزعمتُ وقُدتُ المظاهرة المشهورة تنديدًا بالغزو الأمريكي للعراق، وقصف ملجأ العامرية.
اعتُقلتُ بعد المظاهرة مباشرة، يوم 12 فبراير.
كانت دماء الشباب الساخنة تجري في عروقي؛ طموح، وأفكار حالمة، وأشواق لا سقف لها، وتوثب لا يحسب للعواقب حسابًا.
لكن كان "يُلطف" من هذا الحماس جلسات ربانية هادئة، يعقدها بانتظام الحاج سيدي عمر العلمي، أحد أحفاد العارف بالله سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه (صهري فيما بعد)، في بيته بحي المسيرة بمدينة طانطان "كل ليلة سبت".
كانت ليلة اجتماع فقراء الزاوية البودشيشية: تتضمَّن تلاوات قرآنية، وأمداحًا نبوية بأصوات شجية، ومواعظ حول أخلاق سيدنا رسول الله، ورقائق تذكِّر بسير الصالحين.
وكانت الجلسات تُعطَّر بالبخور وتُنعش الروح، ويُقدَّم فيها من الطيبات خاصة أنواع السمك الطري؛ فقد كان ميناء طانطان حينها مصنَّفًا الأول عالميًّا في صيد وتصنيع السردين.
كنتُ أدخل الجلسة الصوفية وأخرج منها كأنني وُلدت من جديد.
لا أحد يسألك عن سبب حضورك، كان الباب مفتوحًا للجميع: هذا معلم، وهذا مدير، وهذا تاجر، وهذا نجار، وهذا بقال، وهذا عاطل عن العمل...
لم أعلم إلا بعد شهور أن الشيخ الوقور الذي يُسيّر جلسة الذكر هو "سيدي مولاي اسعيد"، مقدم الزاوية البودشيشية بأكادير.
كان رجلًا ربانيًّا مستغرقًا في الذكر، إذا رُئي ذُكر الله، كثير التصدّق، دائم التبسم.
أخبر بأنني تلميذ نشيط وإمام للتلاميذ بالثانوية، وأجيد إلقاء الدروس؛ فقرّبني، وطلب مني يومًا أن أجلس بجواره، ثم أذِن لي بإلقاء درس في تلك الليلة.
بعد الدرس، مدحني وأثنى علي، ثم أخرج من جيبه سبحة جميلة، وقال لي:
"اذكر بها الله، أكثر من لا إله إلا الله، بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة المغرب... وسوف ترى عجبًا!"
لم أحمِل كلامه على محمل الجد... فقد كانت "عقلانية الرأس" مهيمنة على "عقلانية الروح والقلب"!
4 - التحقت بجامعة ابن زهر بمدينة أكادير ؛ وكان مقر الزاوية محاديا لسور الجامعة..
كنت مناضلا طلابيا داخل الحرم الجامعي.. عند تقديم اللائحة المطلبية لعمادة الكلية اكون في مقدمة المفاوضين.. و قد أعقد "حلقة جماهيرية" لمناقشة قضية فكرية "كالعولمة" او " مستقبل التعليم" فأتناول الكلمة بالساعات : اسرد و اشرح و احاجج..كنا نتمتع بطاقة جدلية خارقة.. وكان تخصصي الثقافي بعد تخصصي في الدراسات الإسلامية هو القضية الفلسطينية ؛ كنت مولعا بمتابعة كل ما يكتب عن فلسطين؛ أعرف تاريخها من فترة ما قبل التاريخ؛ و أهضم القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن بحيثياتها وخلفيات صدورها؛ بل كنت احفظ منطوق بعض القرارات بصيغتيها العربية والإنجليزية ..كان الجدال مع اليسار : هل هي قضية دينية أن قضية اقتصادية ؟؟.. التقيت في حفل الاستقبال الملكي بالمضيق هذه السنة أحد أشرس خصومي في الجامعة عن التيار اليساري الاستاذ محمد شهيد برلماني عن الفريق الاشتراكي اليوم..من النظرة الأولى عرفني و عرفته..استرجعنا ذكريات الخصومة الايديولوجية في صحن كلية الآداب..ضحكنا على بعض من "طفولتنا" وسذاجتنا الطلابية في الجامعة ؛ التي منها : أننا كنا نعتقد أننا نحن الطلبة هم مركز الكون؛ و أنبياء التغيير ؛ و القادرون على صناعة التنمية و التقدم في مؤتمر واحد لأوطيم !!
لكني أشهد أن الاستاذ شهيد كان مثقفا متوازنا ؛ متخلقا؛ يغلبه الحياء أثناء المناقشات الطلابية؛ وكان من دعاة الحوار ونبذ العنف في الجامعة.. وقد تأكد لي من خلال جلستي الأخيرة معه بأنه ينتمي لأسرة مسقية بأخلاق التصوف وتقدير أهل الله من الفقهاء و الأولياء.. الحمد لله على نعمة إمارة المؤمنين التي تجعل السقوف الايديولوجية للفرقاء تنتعش تحت السقف الموحد الجامع "سقف التوابث" الوطنية و على رأسها السلطان و الإسلام و أخلاق التصوف و المصلحة العليا للوطن.. 
 
5 - كنت بعد تعب المجادلات الطلابية؛ و المطارحات الايديولوجية التي لا تنتهي؛ اقابل الشيخ سيدي مولاي اسعيد في زاوية حي الداخلة؛  يقابلني بابتسامته المعهودة؛ فانحشر وسط جمهور الذاكرين ..فأحس بهاتف باطني يهمس بي :" الطريق الجدالي و الصدامي الذي تسلكه لن يوصلك الى الله !!..
 لم يكن سيدي مولاي اسعيد يصرح لي بذلك.. فقد كان كلامه عسل وسمن مصفى ؛ لا يعاتب أحدا .. و لكن ككل العارفين بالله؛ كان حديثه  إشارات  مرموزة يلفها الغموض كمن يهديك ( حبة الماس) داخل "صدفة" محكمة الإغلاق.. 
غموض يقول المتصوفة؛  أنه "لا ينجلي" لك؛ إلا بكثرة ذكر الله والصلاة على سيدنا رسول الله..
ملازمتك ذكر الله ؛ هو الذي تجاهد به "انت" جهالات نفسك..
لا أحد يقوم مقامك ..هو جهادك أنت ..هي رياضتك انت .. "ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه".. 
هذه رموز روحية لا يفك أسرارها إلا مدد من الله ؛ ومدد الله يكون بالواردات الرحمانية .. و "الوارد" لا يكون إلا بالورد .. و "الورد" هو السبحة و هو مكان "الشرب" .. فاروي عطش نفسك بنفسك .. 
كنت أعجب من صنيع فقراء الزاوية بحي الداخلة باكادير ؛ لا يردون سائلا..مطبخ الزاوية يشتغل على مدار اليوم..
 هذا فقير ، و هذه ارملة ، و هذا عابر سبيل ، و هذا طالب علم.. من طلب الطعام اطعم .. و من شاء المبيت استقبل.. و من سأل المساعدة أعطي ..كنت مذهولا من طاقة التحمل التي يتمتع بها الشيخ سيدي مولاي اسعيد..
 في إحدى الليالي نادى علي؛ و طلب مني أن اقصد مقر الزاوية بلباس عصري وليس تقليدي !!
ارتديت بذلتي على عجل، و التحقت به ؛ وجدت موكبا من السيارات أمام باب الزاوية؛ يضم فرقة السماع و المديح ؛و بعض الاساتذة و الاطر؛  ركبت سيارته مسرعا؛ و انطلق الموكب في شوارع أكادير..  لنجد أنفسنا داحل باحة فندق فسيح ؛و يبدو أنه فندق من نجوم كثيرة ..دخلنا قاعة جميلة مكشوفة السقف.. مزينة بالشموع؛  يجلس إلى موائدها عدد من الشخصيات الأجانب ذكورا واناثا.. علمت بعد مدة ؛ بأنه حفل لجمع التبرعات لمؤسسة خيرية في (اولاد تايمة) ..
ألقيت كلمة حول "المحبة" كانت بالقرب مني فتاة مترجمة إلى اللغة الانجليزية..
تمتع الحضور بوصلات صوفية و مديح نبوي رائع ..كان مقدم الحفل صحفي من قناة تلفزية وطنية على ما اذكر.. بدأت أفهم بعضا من مجالات عمل اهل التصوف؛ إنهم يرفعون ذكر الله و الصلاة على رسول الله في كل مجمع و مكان ..وهي إحدى مميزات العمل الديني في الزاوية البودشيشية..
6 - اقتربت ذكرى  المولد النبوي ( 12 ربيع الثاني)  وهو المناسبة التي يحييها الفقراء في الزاوية (الأم بمنطقة مداغ) قرب مدينة بركان.. 
اعدت العدة و استقلينا الحافلة.. في الحقيقة هي رحلة سياحية اكثر منها سفر عادي.. فالرحلة تؤطرها لجان متعددة؛ لجنة التنظيم ،ولجنة الطبخ، ولجنة الخدمات، ولجنة الامداح، و لجنة النظافة..فكلما بدا منظر طبيعي جميل توقفت الحافلة و بسطت الافرشة و هيئت القدور.. و تحلق الفقراء حول موائد الشاي و صدحت الحناجر بذكر الله و أمداح سيدنا رسول الله.. 
فخلال ايام الرحلة يتعلم الفقير - وبيننا عدد كبير من التلاميذ و الطلبة-  يقضي ( يوما نموذجيا من حياة رسول الله) : ذكر مستمر ؛ و صلوات خمس في الوقت؛ و تخلق بالرحمة و التعاون والصبر..و التدرب على العطاء وخدمة الآخرين..
7 - كانت زيارتي الأولى لمقر الزاوية بمداغ و النعيمة سنة 2006..بعد حصولي مباشرة على دبلوم الدراسات المعمقة في الأديان المقارنة ..
دخلت حرم الزاوية وهي بنايات متراصة على أرض فلاحية خضراء واسعة.. دخلنا على الشيخ العارف بالله  سيدي حمزة رحمه الله .. وجدت عشرات العلماء من كل الجنسيات ..كل دول الارض هنا .. من الولايات المتحدة و اوروبا و دول اسيا..
عقدنا لقاءات فكرية مطبوعة بطابع التصوف؛ و جوهره التواضع وعدم الادعاء.. لا أحد يدعي إنه يملك حلا اجتماعيا او اقتصاديا لآلام الناس.. و لكن الشيخ يذكر بالله..و ينبه على ملازمة الذكر و إصلاح الباطن ؛ فبصلاح الباطن تصلح الاخلاق.. فالانسان لا يصلح الا بالتربية الروحية؛ فيبارك الله في العلم والجسم ؛ ويلهم الإنسان من الانوار والاسرار و الهداية ما لا يخطر له على بال .. فيكون المصلح الاجتماعي و السياسي والاقتصادي ربانيا يرى بنور الله و يتكلم بنور الله .. فيوفقه الله في مسعاه .. "فأنزل الله السكينة عليه وأيده بجنود لم تروها.. 
8 - قابلت هناك عند الشيخ سيدي حمزة الخبير  الفيتنامي طاوشان  وهو خبير  دولي في رسم الاستراتيجيات العالمية..
وقابلت سيدي احمد العبادي الأمين العام للرابط المحمدية للعلماء؛  الذي مددت يدي لاصافحه فسارع الى تقبيلها..  وقابلت فيلسوف المنطق المعاصر الدكتور طه عبد الرحمان.. أناس تذوب نفسك خجلا أمام سمو اخلاقهم.. 
في ليلة باردة من ليالي المولد النبوي أذن لنا بزيارة سيدي "حمزة رحمه الله؛ كانت زيارة "خاصة جدا ..
أذكر أنها كانت عند منتصف الليل..
كان برفقتي أفراد من أسرة بوعيدة العريقة في الصحراء عمر بوعيدة رحمه الله ؛  و الدكتورة امباركة بوعيدة ؛ و المحامي عبد الحميد بوعيدة؛ و رافقنا مقدم الزاوية بكلميم الصديق الخضير ميتو..
أذكر اننا دخلنا غرفة بسيطة مؤثثة بالمصاحف والسبح؛  سيدي حمزة قليل الكلام؛ ولكنه ينطق بكلمات محسوبة يكررها على مسمعك لتعيها أذن واعية؛ يسألك عن أحوالك و عن أسرتك؛ ثم يلقي لكل واحد نصيحة تخصه؛ تدور حول مجاهدة النفس وإصلاح السرائر.. أصدقكم القول : منذ تلك الجلسة ؛ أصبحت أعي أن هناك (ماقبل ؛ ومابعد) في نظرتي الباطنية للحياة؛ وهذا هو القدر الذي يمكنني الخوض فيه !!
 أذكر أن سيدي حمزة بعد أن ذكرنا بأهمية الإكثار من قول لاالاه الا الله.. وجه كلامه الى سيدي عمر بوعيدة رحمه الله؛  و قال كلمة مؤثرة نقشت في ذاكرتي : ( انتم الذين أنعم الله عليكم بالأموال ؛ لكم محاسبة خاصة عند الله؛ فاكثروا الإنفاق في سبيل الله..)
9 - سوف اخبركم بسر "وسيبقى سرا رغم البوح به" و قد يستجلب نقاشا فكريا.. فعادة النفس حب الجدال؛  و لكن يبقى إشارة اكثر منه عبارة..
 إن مقابلتك الولي؛  بشرط أن تدخل عليه بتواضع و بلا ادعاء؛ سوف تسقيك "سقيا روحانية" تحس بها تسري فيك بلطف وتغير نظرتك للحياة.
 فيكفي ان تحضر ليلة مولد نبوي هناك؛ لتشهد كيف تجتمع القلوب على الله واسمائه الحسنى: الجمال و الجلال و الكمال..كل يحمل سبحته؟ و يراقب (قرينه/ شيطانك) داخل نفسه.. الذي يصبح بوسوسته مكشوفا وسط الذاكرين؛ تسمعه يوسوس في اذنك: ماذا تصنع هنا ؟ 
 التدين الفردي هو الخلاص و الاخلاص..
ثم يردف؛ اتظن أن بحضورك هنا سوف تهزمني؟
 انسحب من هذا المكان و اخرج من بين هذه الجموع.. فالسبحة بدعة و الذكر الجماعي منكر؟؟
ينتصر القرين على الشخص ؛ مادام الشخص يشهد نفسه.. و ينحجب عنه المذكور سبحانه..
تجربة الكثير من الناس أنهم ضحايا أنفسهم..ضحايا علمهم المحدود بالله..
الم يكن ابليس يعرف الله ؟ .. لكنها معرفة ترى النفس/ الانا الإيغو.. قبل رؤية الله..
يتكلم مع الله ويقول : (انا خير منه خلقتني من نار) !!..
في قمة التناقض و الصلف.. عندما تتحدث النفس أمام خالقها ؛ ناظرة الى ذاتها ؛ مؤلهة نفسها ؛ ساجدة لصنمها !!
إن جماع الدرس الصوفي: اهزم "اناك" لترى الله..
(أرأيت من اتخذ إلاهه هواه، وأضله الله على علم)..  نعم الضلال مع وجود العلم و الشواهد العليا و المكانة الدنيوية!!
يخرجك "شيخ التربية" من هذه العبودية الخفية؛ ليدخلك في "جهادك الاكبر" مع نفسك..جهاد يجب أن تخوضه أنت بروحك ضد نفسك.. لن تنفعك مكتبتك و عقلانيتك..
بل إحذر أن يكون علمك مصدر ضلالك !! 
فالعارفون يقولون : ( العلم حجاب) .. ويقصدون الانسان الذي يعتقد أنه بامتلاكه منطق اللغة و التحليل و الكتابة قد "فهم و عرف و تملك وتحكم" في نفسه وهواه !!.. الشهوة تقتل العقلاء .. وتذمر الأذكياء!!
 ألم تر.. أو تسمع عن كثير من علماء النفس و المتخصصين في امراض النفس ؛ يبحثون عمن يعالج مشاكلهم مع أنفسهم !!؟؟
تسمع من سيدي حمزة : ( عدوك بين اضلعك..لا تخاصم و لا تعادي و لا تحارب أحدا.. خاصم نفسك انتصر على اهوائك..)
 
10 - كانت "والدتي الأمية" التي لم تدخل مدرسة قط في أواخر السبعينات تصنف القمامة التي سترمي مع الازبال ؛ هذا كيس فيه الخبز اليابس و هذا فيه بقايا الخضر ؛ وهذا فيه الزجاج المكسور؛ أما نفايات السمك و السردين فتمهل حتى تقطر ثم توضع في كيس خاص يمنع التسرب؛ من علم الوالدة هذه العناية بترتيب وتصنيف القمامة ؟؟
 إنه بعض من توجيهات أهل الله في الزوايا و الرباطات.. و ما كانت النساء يلتقطنه من التوجيهات في مواسم الذكر و الصدقات..
كانت إرشادات و نصائح الأولياء تؤخذ بجد وقوة و تتحول إلى سلوك مدني اجتماعي..فاين نحن من أمية والدينا ؟؟.. نحن المثقفون جدا جدا ؟؟ العقلانيون حتى النخاع ؟؟ 
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور !!
و القلب دواؤه ذكر الله و التواضع مع الخلق ..
11 - تفرض عليك العقلانية المعاصرة بتقاليدها غير المكتوبة؛ "أن تخجل" وتعتذر قبل أن تبوح بتجربتك الروحية الشخصية.. حتى ولو كانت تجربة عقلانية ناجحة نافعة ؛ و تعيش في ظلها أجمل واكمل وأغنى حياة ..
غير أن أهل الله يعلموك الدرس الأول من دروس الانسانية؛ كن انت ، و لا تكن نسخة من أحد ،حتى و لو كان أشهر فيلسوف عقلاني في عصرك..
فأنت هو المخلوق الذي سجدت لك الملائكة؛ لأنك اكبر من كل فلسفة؛ وأعمق من كل عقلانية..
 فأنت الكون كله..إذا عرفت نفسك..ففي سبيل معرفة النفس ضحى العقلاء بالنفس من أجل اكتشاف أرواحهم..
وقطعوا الارض رحلة بحتا عن أهل السر من الأولياء..
 وسط هذا الطوفان من الافكار والفلسفات و القصف الاعلامي و الرقمي و أمواج الواقع بكل تقليعاته الاجتماعية و سوق البشرية بتعبير عبد الوهاب الدكالي.. فقد الناس توازنهم و قدرتهم على التمييز والاختيار.. و تبقى المدرسة الصوفية دالة على الله.. زاوية هناك بعيدا عن الوسط المتموج.. زاوية للعزلة الروحية.. و للتأمل والتدبر ..لاعادة الرشد و التوازن للنفس والروح..
 
12 - من خلال تجربتي الصوفية بالزيارة و المصاحبة و الرحلة و الممارسة؛  استجمع الزاد والصيد؛ لأقول : ماقاله صاحب قصيدة : "مالذة العيش الا صحبة الفقراء"..
لقد وضع بهذه الأبيات خريطة طريق نفسية وليست عقلية؛  لمن شاء السقيا والمدد.. لأن العقل سوف يدخلك منذ البيت الأول جدلا لا نهاية له !!
  يقول سيدي أبو مدين الغوث :
ما لذَّةُ العيشِ إلّا صحبةُ الفقرا
هم السلاطينُ والساداتُ والأمرا
فاصحبهُم وتأدَّب في مجالسهِم
وخلِّ حظَّك مهما خلّفوكَ ورا
واستغنم الوقتَ واحضر دائماً معهم
واعلم بأن الرضى يختص من حضرا
ولازِم الصمتَ إلا إن سُئِلت فقُل
لا علم عندي وكُن بالجهلِ مستتِرا
ولا تر العيب إلّا فيكَ معتقِداً
عيباً بدا بيناً لكنَّه استتَرا
وحُطّ رأسك واستغفر بلا سببٍ
وقُم على قدم الإنصافِ معتذِرا
وإن بدا منك عيبٌ فاعترف وأقم
وجه اعتذاركَ عمّا فيك منكَ جرا
وقُل عبيدُكُم أولى بصفحِكمُ
فامحوا وخُذوا بالرفقِ يا فقَرا
هم بالتفضُّلِ أولى وهوَ شيمتُهُم
فلا تخف دركاً منهُم ولا ضَرَرا
وبالتفتي على الإخوانِ جد أبداً
حار ومعنى دركا منهم ولا ضرَرا
وراقب الشيخ في أحواله فعسى
يرى عليك من استحانهِ أثَرا
وقدم الجدَّ وانهض عند خدمتهِ
عساهُ يرضى وحاذِر أن تكُن ضجِرا
ففي رضاه رضى الباري وطاعتهِ
يرضى عليك  وكُن من تركها حذِرا
واعلَم بأن طريق القوم دراسة
وحال من يدّعيها اليوم كيف ترى..
13 - لقد جالست سيدي جمال رحمه الله.. رباني تحفه السكينة..
وجالست سيدي منير؛ و سيدي معاذ أكثر من مرة..
إنك تشعر بمجالستهم انك في حضرة روحانية متعالية.. تغمرك منظومة الاخلاق الاسلامية السامية وقد تجسدت نماذج حية معاصرة..
لقد صدمني صنيع سيدي حميدة نجل سيدي حمزة رحمهما الله؛ وكان عاملا لصاحب الجلالة على "اقليم بركان" عندما قام ليصب الماء قبل وجبة العشاء بمقر الزاوية على الضيوف وانا منهم؛ ومنهم رؤساء مصالح تحت امرته و سلطته.. 
وقد رأيت شبابا أوروبيين حديثي عهد بالاسلام ؛ ينظفون مراحيض و مطابخ الزاوية فسألت عن الأمر؛  فقيل لي: "مدخل التربية الصوفية : التواضع و خدمة الخلق "..
لن تدخل فضاء التربية الروحية؛ إن لم تتواضع؛  و تخدم غيرك؛ إن لم تعط من جهدك ووسعك للناس..
تكبرك عن العطاء "مانع" وحجاب لك عن  المدد الروحي..
فمدخل التصوف العطاء محبة الخير للعالمين..
الكثير مما اريد قوله يكفيني عن قوله؛ ما باح به ابوحامد الغزالي في كتابه المنقء من الضلال خصوصا في المقدمة .. فالعبقري و فيلسوف زمانه بلغ حد الضخمة العقلانية تدريسها و تأليفا؛ فتوجه ليرتوي روحيا وينحشر مع أهل الله من الفقراء في الزاوية .. فدخل التجربة الروحية ليعلن على الناس ( الصوفية هم سادة الخلق ).. و عقلانيتنا أمامهم كالطفل يلهو ببعض العابه.. 
ينحجب الناس عن فهم و دخول التجربة الصوفية لسبب بسيط يلخصه الصوفية في "حجاب المماثلة" ..الناس محجوبون ببشرية الشيخ كما حجبوا بشرية النبي ( وقالوا ما لهذا الرسول ياكل الطعام ويمشي في الأسواق)..
والموفق من اخترق البشرية نحو الروحانية..
انتصر على نفسك فقط..تدخل الحضرة..والحضرة ليست كلاما نظريا.. انها الحضور مع الله..إنها مقام الاحسان: أن ترى الله او تكاد تراه..أن تعبد الله كأنك تراه..
14 - خلاصة تجربتي وزبدتها : لقد زرت شيخ الطريقة ( بتعبيرنا المدرسة الروحية) وجالسته.. و حضرت ليالي الذكر و المديح بعدد من المدن المغربية.. و سافرت مع فقراء الطريق بل وعدد من الطرق الصوفية الأخرى.. فكل الطرق إخوة في طريق الله؛ كما قال سيدي الشيخ ماء العينين رحمه الله: "إني مؤاخي كل الطرق".. وقد قال العارفون: (الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلق).. و قد شاركت في العديد من الملتقيات الثقافية و التربوية للزوايا الصوفية ..
و القدر الذي يفيد الكلام فيه حالا : أن من حرم نفسه مجالس الأولياء، و حرم أسرته الدخول و رؤية أهل الذكر في الزاوية ..و حضور  ليالي روحانية الفقراء.. فقد حرم خيرا كثيرا ؛ و أضاع على نفسه و أهله تجربة وجودية حية "لكلام كنا نقرأه ونسمع عنه" عن أهل السر و البركة و الفتح من السلف..
فقم فتح الله بصيرتك برحلة استكشافية؛ اعتبرها رحلة ثقافية و بحثا انتربولوجيا.. فقط، أصدق النية مع الله..وسوف تجذبك روحانية لطيفة على قدر صفاء سريرتك..فالإمداد على قدر الاستعداد..
فإن لم تستطع.. او لم تسمح لك الظروف: "فامسك عليك لسانك و ليسعك بيتك وابك على خطيبتك".. 
فما تطلبه أمامك..
فرحم الله سيدي جمال..
و أسأل  اللطيف سبحانه؛ أن يديم أمداد السر على ذريته.. و أن ينفعنا بصحبة العارفين.. و ان يرزقنا التواضع معهم أحياء وأمواتا..ويحصن مملكتنا بدعائهم وصدقاتهم.. ويحفظ مولانا أمير المؤمنين بسر سلكهم و بركات و أنوار أذكارهم.
 
عبد الخالق حسين، رئيس المجلس العلمي لطانطان