امريدة: قرار المحكمة الدستورية وتحديات المسطرة المدنية.. إحالة مشكوك في دوافعها ورقابة سطحية تكشف قلق البرلمان

امريدة: قرار المحكمة الدستورية وتحديات المسطرة المدنية.. إحالة مشكوك في دوافعها ورقابة سطحية تكشف قلق البرلمان عبد الغني امريدة
أولا: تثير إحالة قانون عادي من قبل رئيس مجلس النواب على المحكمة الدستورية تساؤلات واستفهامات حول دلالات وسياقات هذه الاحالة. صحيح أن الإحالة حق دستوري لرئيس المجلس وغيره من الجهات المنصوص عليها في الفصل 132 من الدستور. لكن لماذا لا يستعمل هذه الإحالة دائما؟ فالإحالة في هذه الحالة قد لا تعبر بالضرورة عن قناعة التصدي للأحكام غير الدستورية في النصوص والأنظمة القانونية، إنما ينبغي قراءتها في سياقها الذي لا يمكن فصله عن ما صرح به السيد رئيس المحكمة الدستورية في المحاضرة التي ألقاها في الرباط خلال الأشهر القليلة الماضية بشأن مسؤولية رئيسي البرلمان في عدم إحالة القوانين على القضاء الدستوري. لذلك الإحالة في هذا السياق تمرر رسالتين:

الأولى، يرد بها بشكل غير مباشر على انتقادات السيد رئيس المحكمة الدستورية، ومحاولة بعث رسالة إلى المجتمع وعموم الباحثين أن رئيس مجلس النواب يفعل ويمارس اختصاصاته الدستورية.
الثانية: محاولة امتصاص ضغط المجتمع نتيجة الانتقادات التي أصبحت توجه للقوانين والتشريعات خصوصا تلك الموجهة لمشروع قانون المسطرة الجنائية، وارتفاع الطلب الاجتماعي على إحالة القوانين على القضاء الدستوري. وهنا تثار التساؤلات التالية: هل تمت مقايضة المسطرة الجنائية بالمسطرة المدنية؟ لأنه إذا كان السيد رئيس مجلس النواب يحرك الإحالة كلما تبين له أن القانون المعني يحمل مقتضيات وأحكام غير دستورية، فلماذا لم يستعمل هذه الإحالة ونفس الأسلوب مع مشروع قانون المسطرة الجنائية، رغم أن النقاشات والانتقادات الموجهة للمسطرة الجنائية أشد وأخطر بكثير من تلك المتعلقة بالمسطرة المدنية. لماذا هذه الانتقائية في إحالة القوانين على القاضي الدستوري؟
ثالثا: يشير قرار المحكمة الدستورية أن قانون المسطرة المدنية موضوع المراقبة الدستورية يتشكل من 644 مادة، ولا أحد يعلم الطريقة التي اعتمدتها المحكمة في تفكيك مقتضيات هذا القانون، لكن القرار يحمل حيثية تبين أن المحكمة الدستورية قامت بمراقبة سطحية لقانون المسطرة المدنية، أي اقتصرت على ما هو مخالف أو غير مطابق للدستور بشكل واضح وبيَن، وليس مراقبة عميقة تفكك وتذهب إلى البحث في عمق مدى دستورية كل مقتضى أو بند أو مادة متضمنة في القانون موضوع المراقبة، وهذه الحيثية هي "وحيث إنه، تبعا لذلك، فإن هذه المحكمة، في إطار مراقبتها لدستورية هذا القانون تراءى لها أن تثير فقط، المواد والمقتضيات التي بدت لها بشكل جلي وبين أنها غير مطابقة للدستور أو مخالفة له".
فعبارة "تثير فقط المواد والمقتضيات التي بدت لها بشكل جلي وبين..." تعني أن قانون المسطرة المدنية قد تكون بقيت فيه مواد ومقتضيات غير دستورية مدفونة في باطن القانون، لا تظهر عيوبها بشكل واضح وجلي الآن. هو ما يعني أن المحكمة الدستورية تحاشت تقديم تفسيرات وتأويلات عميقة مضادة لتلك التي أتى بها مشرع قانون المسطرة المدنية، مادامت رسالة الإحالة خالية من الإشارة إليها.
رابعا: تشكل الإحالة في مثل هذه الحالات أخطر أنواع الإحالات، لماذا؟ لأن رسالة الإحالة المقدمة من قبل السيد رئيس مجلس النواب لا تشير بالضبط إلى المواد والأحكام غير الدستورية في قانون المسطرة المدنية، أو بتعبير المحكمة الدستورية "حيث إن إحالة قانون المسطرة المدنية المكون من 644 مادة، لم تتطرق إلى مآخذ تتعلق بمقتضيات النص المعروض على نحو محدد...". وهنا تظهر المخاطر التالية:

1- في هذه الحالة تصبح الإحالة مجرد بروتوكول شكلي للتخلص من ضغط المجتمع المحتج على القانون، ومع ذلك قد تصيب القانون موضوع المراقبة، بالصدفة، بعدم دستورية بعض الأحكام.
2- في هذه الحالة تكون الإحالة هي أسهل طريق للهروب إلى الأمام وإلقاء المسؤولية في مرمى القاضي الدستوري.
3- في هذه الحالة يكون القاضي الدستوري في وضع مريح جدا، وبإمكانه ألا يسقط أي مادة في القانون موضوع المراقبة، مادامت رسالة الإحالة لا توضح المواد والأحكام التي تصطدم بالدستور.
4- لقد كشف قرار المحكمة الدستورية المتعلق بقانون المسطرة المدنية عن محدودية مفهوم إحالة القوانين على القضاء الدستوري في ذاكرة ومفهوم رئيس مجلس النواب بالمغرب، رغم أنه ظاهريا، وكما ذهبت معظم القراءات وردود الفعل اتجاه قرار المحكمة الدستورية، أنها مبادرة إيجابية. يجب أن ننتبه أنها قد تتحول إلى عادة سلبية مستقبلا مع رؤساء البرلمانات المتعاقبين، وتصبح الإحالة مجرد عملية ميكانيكية هدفها إيصال القوانين إلى دهاليز المحكمة الدستورية، لتفادي انتقادات سلوك رئيسي البرلمان بعدم إحالة القوانين العادية على المحكمة الدستورية. فمفهوم الإحالة في الممارسة القضائية الدستورية، وبخلاف حالة الإحالة الإلزامية المتعلقة بالقوانين التنظيمية والأنظمة الداخلة، فالإحالة في القوانين العادية (مثل حالة قانون المسطرة المدنية التي نحن بصدد تحليلها) تعني أن القانون محل صراع، والأطراف لها حججها وأدلتها التي تبين أوجه مخالفة أو عدم مطابقة القانون للدستور. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فممارسة السيد رئيس مجلس النواب والأطراف التي قد تحيل القوانين العادية برسائل غير مدعمة بحجج تبين أوجه عدم الدستورية، ستؤسس لسلوك سلبي بكل المقاييس، وتصبح حالة القوانين العادية شبيهة بحالتي القوانين التنظيمية والأنظمة الداخلية. لذلك فالقرار المتعلق بالمسطرة المدنية قد يؤسس لهذه السوابق، وفي نفس الوقت يكشف محدودية مفهوم إحالة القوانين على القضاء الدستوري في ذاكرة السلطات العمومية (رئيس المجلس في هذه الحالة).
-5إسقاط المحكمة الدستورية لبعض مواد قانون المسطرة المدنية، وبصرف عن مضمون هذه المواد، تبقى إشارة ايجابية، وتقلب الطاولة على جهات الإحالة، وهناك رسالة مشفرة من قبل القاضي الدستوري مفادها أنه رغم عدم إشارة رسالة الإحالة بالضبط إلى المواد المخالفة للدستور، أن المشكل ليس من جانب القضاء الدستوري، بل في أطراف الإحالة، والاستعمال النادر لهذه الأداة من قبل المعنيين بها، وأن من شأن تكثيف الإحالة أن يصيب القوانين ويسقطها في مرمى عدم المطابقة أو المخالفة للدستور. لكن يجب الانتباه أن القرار قد يزرع الرعب والخوف في رؤساء البرلمانات مسقبلا، لماذا؟ لأن الإحالة بدون توضيح أوجه عدم المطابقة أو المخالفة، قد يكون رئيس البرلمان أعتقد أن المحكمة الدستورية ستقوم برقابة شكلية فقط، أي البحث عن شرعنة القانون فقط؟ وإلا ما معنى إحالة قانون بدون توضيح عيوب مخالفته للدستور؟ لأن "البينة على من ادعى". لكن حدثت المفاجئة عندما أسقطت المحكمة بعض مواد قانون المسطرة المدنية، وهذه النتيجة لم تكن تتوقعها جهات الإحالة. كما أنه من الناحية السياسية، هذه الممارسة ستخلق، إن لم تكن خلقت مشاكل داخلية في بيت الأغلبية. ولا يمكن هدم هذه السيناريوهات والتفسيرات إلا إذا قامت جهات الإحالة (خصوصا رئيسي البرلمان) بإحالة القوانين العادية (المسطرة الجنائية مثلا) الآن أو مستقبلا على المحكمة الدستورية.
 
عبد الغني امريدة              
أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق بفاس