أولًا: مغرب بسرعتين — الفجوة التنموية بين الحواضر والهامش
شهد المغرب خلال العقدين الأخيرين دينامية تنموية لافتة، تجسدت في مشاريع بنية تحتية كبرى مثل الموانئ العملاقة، والطرق السيارة، والسكك الحديدية فائقة السرعة، ومناطق صناعية ولوجستية حديثة. هذه الإنجازات أضفت على بعض المدن الكبرى طابعًا حضريًا متطورًا، وجعلتها تنافس مراكز إقليمية في إفريقيا والمتوسط.
لكن في المقابل، ما زالت مناطق واسعة من المغرب القروي والهامشي تعيش واقعًا مغايرًا: ضعف الخدمات الأساسية، عجز في البنية التحتية، هشاشة اقتصادية، وهجرة مستمرة نحو المدن أو الخارج.
هذه الثنائية ليست صدفة، بل هي نتاج تاريخ طويل من التركيز التنموي في محاور محددة منذ الحقبة الاستعمارية، واستمرار أنماط استثمار لا تحقق العدالة المجالية. فالفجوة بين أقاليم مثل الدار البيضاء وطنجة من جهة، وأقاليم قروية نائية من جهة أخرى، قد تتجاوز في بعض المؤشرات ضعف المعدل الوطني، مما يهدد التماسك الاجتماعي ويضعف الانتماء الوطني المتكافئ.
ثانيًا: الاستثمار في الرأسمال البشري كشرط للنهضة..فلا يمكن قياس نجاح أي مشروع تنموي فقط بالمتر المربع من الطرق أو عدد المشاريع العقارية، بل بمدى تطوير الرأسمال البشري — أي المواطن المؤهل، المبدع، والفاعل
- التعليم: يظل التحدي الأكبر في الجودة، والملاءمة مع متطلبات سوق الشغل، خاصة في العالم القروي حيث نسب الهدر المدرسي مرتفعة وضعف التأطير التربوي.
- الصحة: تفاوت حاد في توزيع الموارد البشرية والبنيات الطبية، ما يجعل الحصول على خدمات صحية جيدة شبه مقتصر على الحواضر الكبرى.
- الشباب: يمثلون أكثر من ثلث المجتمع، لكن البطالة بينهم، خصوصًا بين خريجي الجامعات، تكشف عن فجوة بين التكوين والطلب الاقتصادي.
من دون معالجة هذه الاختلالات، تبقى البنيات المادية معرضة للتآكل بفعل نزيف الكفاءات وفقدان الثقة في المستقبل.
ثالثًا: التفاوتات الثقافية والاجتماعية بين المجالين الحضري والقروي: الفوارق المجالية ليست فقط في الإسمنت والطرقات، بل أيضًا في الثقافة وأنماط الحياة.
- المجال الحضري يستفيد من مرافق ثقافية وفنية ورياضية، وحضور قوي للأنشطة الترفيهية والتعليمية.
- المجال القروي يعاني ندرة في البنى الثقافية والرياضية، وضعف الوصول إلى الإنترنت عالي الجودة، ما يحد من فرص التعلم والتواصل والانفتاح.
هذه الفجوة تولد شعورًا بالتهميش، وتدفع الشباب إلى الهجرة نحو المدن، مما يفرغ القرى من طاقاتها البشرية النشطة ويضعف حيوية نسيجها الاجتماعي.
رابعًا: أزمة السلوك المدني في الفضاءات المشتركة — قراءة موسعة وواقعية
إلى جانب التفاوتات المجالية والاقتصادية، يواجه المغرب إشكالًا متصاعدًا يتمثل في تدهور السلوك المدني في الشارع والفضاء العام، وهي ظاهرة لم تعد مقتصرة على قلة، بل أصبحت مشهدًا يوميًا متكررًا.
1. مظاهر ملموسة للأزمة:
- الكلاب الضالة تجوب الشوارع والأحياء، مهددة السلامة الصحية والجسدية، دون تدخل فعال ومستدام.
- عدم احترام علامات التشوير وقوانين السير، بما في ذلك تجاوز الأضواء الحمراء والوقوف العشوائي.
- هندام غير لائق لبعض سائقي سيارات الأجرة، مع غياب زي موحد، بل وتدخين عدد منهم داخل السيارة أثناء الخدمة.
- رمي الأزبال في غير أماكنها، وإهمال نظافة الحدائق والمرافق العمومية.
- الضجيج المفرط سواء من الدراجات النارية المعدلة أو مكبرات الصوت.
- الاحتلال غير القانوني للملك العمومي من طرف بعض الباعة أو المقاهي.
2. قراءة سوسيولوجية:
هذه السلوكيات تعكس ضعف التربية المدنية، وتآكل الإحساس بالمسؤولية المشتركة عن الفضاء العام، وغياب القدوة في الأسرة والمدرسة والإعلام، إضافة إلى ثقافة "اللامبالاة" الناتجة عن ضعف المحاسبة.
3. المقارنة الدولية:
في مدن عالمية، تُعتبر هذه التفاصيل مؤشرات حضارية، وتحظى برقابة وتوعية دائمة، مما يعزز صورة المدينة وجودة الحياة فيها.
4. الحلول الممكنة:
- تأهيل الفضاء العام بحملات تنظيف ومراقبة منتظمة.
- فرض زي موحد لسائقي سيارات الأجرة ومنع التدخين أثناء الخدمة.
- تفعيل شرطة المرور والبيئة.
- التربية على المواطنة منذ الصغر، مدعومة بحملات إعلامية مستمرة.
خامسًا: نحو مغرب موحّد في الفرص والسلوك والثقافة
مغرب 2030 يجب أن يكون مشروعًا متكاملًا يوازن بين:
- عدالة مجالية تقلص الفوارق الاقتصادية والجغرافية.
- عدالة اجتماعية تضمن تكافؤ الفرص في التعليم والصحة والعمل.
- عدالة ثقافية وسلوكية تحمي القيم المشتركة وتعيد الاعتبار للمواطنة الفاعلة.
فالتحضر ليس في ارتفاع البنايات وحدها، بل في رقي السلوك، وحيوية الفضاء العام، ووعي المواطن بأن نجاح المشروع التنموي مرهون بإنجاح المشروع الثقافي والقيمي.
فؤاد ابن المير، باحث في علم الاجتماع ورجل قانون