عبد العزيز الخبشي: انبعاث تحت الطلب أم اغتيال مؤجل لحزب الوردة؟

عبد العزيز الخبشي: انبعاث تحت الطلب أم اغتيال مؤجل لحزب الوردة؟ عبد العزيز الخبشي
لم يكن تصريح إدريس لشكر، عقب أشغال المجلس الوطني للاتحاد الاشتراكي، مجرد تواصل سياسي داخلي، بل شكل محاولة أخيرة للتمويه والتلميع في لحظة احتضار تاريخي. فمن يتأمل هذا الخطاب سيجد نفسه أمام عرض متوتر، يحاول أن يلتقط أنفاسه الأخيرة وسط ركام التراجعات التنظيمية، والتهافت الإيديولوجي، والارتماء في أحضان منطق الدولة التكنوقراطية، حيث تنزوي الاشتراكية إلى مجرد ديكور لغوي مفرغ من أي محتوى مادي نقدي أو مشروع تحرري واضح. فخطاب لشكر يختزل مشهدا حزبيا مأزوما، وقيادة فقدت بوصلتها السياسية منذ زمن، ولا تزال تسعى عبر اللغة إلى إنتاج وهم اسمه "الانبعاث".

حين يعلن إدريس لشكر، بكل ثقة، أنه لا يرغب في ولاية رابعة، فهو لا يفعل ذلك انسجاما مع مبدأ التداول أو التزاما بقيم الديمقراطية الداخلية، بل لأن ميزان القوى لم يعد يسمح له بذلك. القرار فرض عليه أكثر مما اختاره، وما لبث أن برّره بالتأكيد على أن "ثلاث ولايات تكفي"، وكأن المشروع الاشتراكي الذي ضُرب في الصميم طيلة قيادته يمكنه أن يستعيد حيويته بتنحي شخص وتداول شكلي في القيادة. إن الانبعاث الحقيقي لا يتم عبر صناعة تقاعد سياسي مشرف للزعيم، بل بإعادة بناء الحزب على أسس طبقية واضحة، وهذا ما لم يتضمنه أي من محاور كلمته.

أخطر ما يمكن رصده في هذا الخطاب هو ذلك الحنين إلى الوثيقة المذهبية، لا باعتبارها تعبيرا عن رؤية طبقية نقدية للعالم، بل كغطاء لغوي لإخفاء الانهيار الإيديولوجي. يعلن لشكر عن ضرورة صياغة وثيقة جديدة، لأنه ـ حسب تعبيره ـ “الاشتراكية العلمية لم تعد كافية”، وكأن الإشكال في المضمون النظري وليس في غياب الإرادة السياسية لاستعادته. هنا نكتشف أن الوردة لم تعد حمراء بل شاحبة، وأن الاشتراكية أصبحت عبئا على قيادة تغازل خطاب الدولة أكثر من همّ التغيير الجذري، وتسعى لارتداء ثوب “التحديث الديمقراطي” كما تفهمه المؤسسات الرسمية، لا كما تقتضيه شروط بناء يسار حقيقي.

أما حديثه عن "الدولة العادلة القوية" و"المجتمع الحداثي المتضامن"، فهو يندرج ضمن منطق التواطؤ اللغوي، لا الصراع السياسي. فحين يتبنى زعيم حزب يفترض أنه معارض نفس المفاهيم التي تبنتها السلطة ودمجتها في خطابها الاستيعابي، فإنه لا يقوم سوى بإعادة إنتاج مفاهيم تم تدجينها، دون مساءلة أسسها المادية أو علاقتها بالبنية الطبقية للنظام. والأنكى من ذلك أن لشكر يعتبر تبني خصومه لهذه المفاهيم "انتصارا"، متناسيا أن القوى النيوليبرالية تتقن لعبة امتصاص المفاهيم وتفريغها من محتواها، لتعيد توجيهها نحو إعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي نفسه.

وما محاولة لشكر إعادة صياغة الوثيقة المذهبية تحت ذريعة مرور خمسين سنة على المؤتمر الاستثنائي إلا تمرين لغوي بئيس، يفتقد إلى الجرأة الفكرية والتحليل الطبقي، ويكشف عن مأزق قيادة تجهل جذورها وتخجل من تاريخها. إنها محاولة يائسة لتلميع وجه فقد ملامحه، فالاتحاد الاشتراكي لا يحتاج إلى تقرير مذهبي جديد بقدر ما يحتاج إلى مراجعة جذرية لموقفه من السلطة، ولخطه السياسي الذي تماهى أكثر من اللازم مع الدولة، على حساب الجماهير التي هجرته في صمت.

أما إشارته إلى مخرجات اللجنة التحضيرية، فهي تكرار ممل لمحاولات تعويم النقاش السياسي داخل الحزب. فبدل أن يناقش لشكر الإخفاقات المتتالية التي عاشها الاتحاد في عهد قيادته، من التراجعات الانتخابية إلى التفكك التنظيمي، راح يستعرض ما يشبه "الأحلام الإصلاحية" التي تنبت خارج سياق الصراع الاجتماعي، مثل تأسيس مرصد وطني لمراقبة الانتخابات، وكأن الأزمة في صندوق الاقتراع لا في توزيع السلطة والثروة، وكأن الخلل في التقنية لا في النظام الطبقي الذي يتحكم في مصير البلاد.

إن اقتراح مرصد وطني لمراقبة الانتخابات من طرف حزب ساهم لعقود في شرعنة المسار المؤسساتي الموجه، ولم يعترض يوما بشكل جذري على بنية النظام الانتخابي غير الديمقراطية، هو أشبه ما يكون بمطالبة الثعلب بحراسة بيت الدجاج. إنها دعوة تخفي عمق الفشل السياسي، وتسعى إلى التغطية على انسداد أفق المشاركة الحزبية التي أفرغت من مضمونها النضالي، وأصبحت رهينة التوافقات والتعيينات والزبونية الانتخابية.

ولعل أخطر ما في خطاب لشكر هو حديثه عن تعديل الدستور، وخاصة ما يتعلق بلجان تقصي الحقائق. صحيح أن هذه الآلية الرقابية شبه معطلة، لكن المطالبة بتعديلها في غياب مساءلة شاملة لبنية السلطوية، وموقع المؤسسة الملكية، وتوازن السلطات، يجعل الأمر مجرد تصريف لأوهام الإصلاح في بنية لا تسمح بأي تحول ديمقراطي حقيقي. فالإصلاح الدستوري الذي لا يمس جوهر النسق السلطوي يظل شكليا، ومطلبا يُستعمل لتبرير استمرار حزب مهادن في موقع المعارضة الوظيفية، لا المعارضة المناضلة.

أما حديثه عن "الخروج من جلد الذات والتنافر"، فهو جزء من استراتيجية الإنكار. فجلد الذات في الاتحاد لم يكن نتيجة مبالغات انفعالية، بل انعكاس لوعي سياسي بأن القيادة قد خانت المبادئ وداست على الإرث النضالي، وتحالفت مع السلطة في لحظات حاسمة، وضيّعت على الحزب فرصة التحول إلى يسار جماهيري حقيقي. لا يتعلق الأمر بمزاج تنظيمي عابر، بل بمأساة حزبية مستمرة.

وفي النهاية، فإن ما سماه لشكر "ميلادا جديدا وقويا للاتحاد الاشتراكي" ليس سوى محاولة لتمديد عمر قيادة فقدت كل شرعية سياسية، قيادة تظن أن خطاب التفاؤل بإمكانه إخفاء حجم الفجوة بين الحزب وقواعده، وبين الخطاب الاشتراكي التاريخي والانخراط الحالي في منطق التوافقات. الاتحاد الاشتراكي لا يحتاج إلى مؤتمر جديد بل إلى محاكمة تاريخية لقيادته، ومراجعة حقيقية لمساره، والانصات لصوت اليسار الجذري الذي يفضح كل هذا العبث باسم الوردة.

إذا كان ثمة ميلاد منتظر، فهو لن يكون من رحم هذا المؤتمر، بل من رحم الغضب الطبقي، حين تعود الاشتراكية إلى معناها الأصلي: قطيعة جذرية مع السلطة، وانحياز مطلق للمقهورين. وما عدا ذلك مجرد ولادة تحت الطلب… لا تبعث الحياة، بل تؤجل دفن الحقيقة.