أحمد فرحان: بين الفكر والترند..  "زمن السطحي الناجح"

أحمد فرحان: بين الفكر والترند..  "زمن السطحي الناجح" أحمد فرحان
منذ ما يزيد عن نصف قرن، والفكر الفلسفي في العالم العربي والإسلامي يشق طريقا في المسالك الوعرة من تاريخنا الثقافي، لإعادة قراءة التراث الإسلامي، ليس بهدف تمجيده أو استعادته كما هو، بل في سبيل إحيائه نقديا، وبناء وعي حضاري جديد قادر على التفاعل مع تحديات العصر: الحداثة والتقنية والدولة والعقل والعالم.
 
مشاريع فكرية جسورة، كتلك التي أطلقها حسين مروة، طيب تيزيني، محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، محمود إسماعيل، نصر حامد أبو زيد، حسن حنفي، محمد أركون وغيرهم، انطلقت من أدوات معرفية رصينة؛ من التحليل البنيوي، إلى التأويل الهرمينوطيقي، إلى النقد الإبستمولوجي، لتعيد للتراث مكانته كتربة غنية قابلة للفهم، وإعادة البناء، لا كأنقاض مقدسة أو نصوص منتهية الصلاحية.
لكن هذا الجهد التراكمي، العميق والدقيق، ظل -ويا للمفارقة- منسيا في زمن "السطحي الناجح".
 
إننا اليوم أمام جيل واسع من المتلقين، صعدوا على سلم الثقافة السريعة: ثقافة كتب "فن اللامبالاة" و"نظرية الفستق" و"كيف تصبح مليونيرا في خمس خطوات" أو "فن الإغواء" و"العادات السبع"، الناجحة في سوق القراءة السريعة الجاهزة، والمترجمة إلى عشرات اللغات العالمية والمحلية، بمعيار الأرقام والمبيعات؛ حيث النجاح يُختزل في الأرقام، والتفكير يُختزل في وصفات، والحكمة تتحول إلى نصائح قابلة للمشاركة على إنستغرام، والصباحيات المباركة على الواتساب. وبقايا من جيل سابق طلائعي يسكنه الآن الإحباط والخوف والرعب، ويبحث عن موقع في "زمن السطحي الناجح"، كما يتطلع إلى حسن الخاتمة.
 
وفي قلب هذا المشهد الثقافي المربك، يُقصى الخطاب الفلسفي العقلاني وتُختزل قيمته، لا لأنه عاجز عن الإسهام أو بعيد عن واقع الناس، بل فقط لأنه لا يتحدث بلغة السوق، ولا يعِدُ بحلول سريعة، ولا يُروّج لأوهام السعادة المعلبة. يُنظر إليه كترف ذهني لا طائل منه، بينما هو في جوهره ممارسة نقدية تهدف إلى تحرير الإنسان، وتوسيع أفقه الأخلاقي، وتأسيس وعي حضاري مستنير. إن السؤال الذي يواجهنا اليوم ليس: كيف نُقنع من لا يريد أن يقتنع؟ بل: كيف نعيد للتفكير قيمته في زمن يتم فيه تسويق الروحي وتعظيم السوقي.
 
ليس الحل في السخرية من الثقافة السائدة، ولا في التباهي بالتعالي الأكاديمي، بل في صياغة خطاب إنساني حضاري حيوي، قادر على أن ينافس لا أن يحقد، وأن يحاور لا أن يحتقر. فالفلسفة لا تحتاج أن تكون "مؤثرة"، لكنها تحتاج أن تكون فكرا حيا. 
(هذه خواطر مستلهمة من قراءتي لهذا الكتاب المفيد: "تسطيح العالم"، وهو مترجم إلى العربية لم أطلع الترجمة وليس لدي عليها رأي أو حكم. إن أي تشابه بين هذه الخواطر والعقليات والذهنيات والظرفيات في سياقنا المغربي الراهن إنما هو من قبيل الصدفة فقط)..