ليس من الهين، في لحظة زهو مجتمعي بالتعليم العالي، أن نجد أنفسنا مضطرين لتجديد السؤال حول طبيعة الجامعة ورسالتها، لا لأن وظائفها غامضة أو غير محددة، بل لأن بعض الممارسات التي بدأت تتسلل إلى فضائها تضطرنا إلى العودة لنص القانوني المؤطر، لا لتأويله، بل للتذكير به.
لقد أثار ما جرى مؤخرا من إدراج فقرات راقصة داخل حفل تخرج في إحدى المؤسسات الجامعية كثيرا من علامات الاستفهام، ليس فقط حول الذوق العام، بل حول مدى مشروعية هذا النوع من الأنشطة داخل فضاء يفترض أنه مؤسس على رصانة أكاديمية ووظيفة تربوية محددة بدقة من قبل المشرع .
بالرجوع إلى القانون رقم 01.00 المتعلق بتنظيم التعليم العالي، نجده لم يترك مجالا للتأويل أو التساهل في تحديد طبيعة الأهداف والمهام الموكولة للمؤسسات الجامعية. فالمادة الأولى منه، وبصيغة صريحة، حددت أن التعليم العالي يهدف إلى تكوين أطر عالية الكفاءة في مجالات العلم والثقافة والفن والتقنيات، وهو ما يجعل الحديث عن "الفن" مرتبطا حتما بسياق التكوين الأكاديمي، وليس بالعرض أو الفرجة. فالفن هنا ليس فنا استعراضيا شعبيا يجلب من خارج أسوار الجامعة، بل نشاطا فكريا وثقافيا يدرس أو يناقش أو يحلل، لا يقدم في قوالب راقصة تفرض على الفضاء الجامعي دون أي سند تربوي أو قانوني .
وحين نتأمل في جوهر المادة الثانية من ذات القانون، فإننا نجد تأكيدا إضافيا على أن من مهام الجامعة نشر الثقافة، لا بصفة عامة، بل عبر تنمية القيم الثقافية والعلمية والوطنية والإنسانية. وهذه القيم ليست شعارات، بل محددات موضوعية تحد مما يمكن أن يقدم أو يبرمج أو يستقبل داخل الجامعة. ذلك أن أي نشاط يخالف هذه القيم، أو يخرج الثقافة من بعدها التربوي والعلمي الأكاديمي الهادف إلى ترفيه سطحي لا علاقة له بالتكوين، إنما يعد ابتعادا صريحا عن المهمة التي وجدت من أجلها المؤسسة الجامعية.
وإذا زعم بعضهم ـ الجمعية الطلابية وغيرها ـ أن الجامعة تتمتع باستقلال ثقافي وإداري يسمح لها بتنظيم ما تشاء من أنشطة، فإن المادة 27 كفيلة بتصحيح هذا الفهم، إذ تنص على أن استقلال الجامعة يتم داخل حدود اختصاصها، أي داخل الإطار الذي رسمه القانون سلفا في المواد السابقة وما يليها. وبالتالي، فإن الاستقلال لا يفهم إطلاقا كشيك على بياض، بل كتنظيم داخلي يجب أن ينسجم تماما مع الوظيفة الأكاديمية، وليس أن يتجاوزها أو يختزلها في مظاهر احتفالية غير منضبطة قانونا وأخلاقا .
ثم إن الفقرة الأولى من المادة الخامسة تضع معيارا أخلاقيا حاسما حين تنص على ضرورة احترام القيم والأخلاقيات الجامعية. وهذه ليست مجرد توصيات، بل تمثل الإطار الذي يجب أن يخضع له كل ما يمارس داخل المؤسسة. ومن نافل القول إن حضور فرق موسيقية أو فقرات راقصة من النوع الذي أثار الجدل، يخل بهذه الأخلاقيات ويفرغ الجامعة من رمزيتها، ويعرضها لتحولات تبتعد بها عن رهان تكوين الباحث والمسؤول وصانع القرار، لتدفعها إلى منحدر الترفيه المجاني على حساب الوظيفة الأصلية .
إن الجامعة، في فلسفتها القانونية كما في وجودها التاريخي، لم تكن يوما ساحة مفتوحة لكل ما يصنف ضمن الفعل "الثقافي"، وإنما هي فضاء مؤسساتي تحكمه ضوابط العلم والبحث والمسؤولية الأكاديمية. وإذا كنا نقر بأن التكوين الجامعي لا ينفصل عن الحياة الثقافية، فإن هذه الحياة يجب أن تكون منسجمة مع القيم التي نص عليها المشرع، لا أن تكون غطاء لأنشطة تنتزع من بيئتها الاجتماعية وتفرض على فضاء جامعي لا تحتمل طبيعته مثل هذا النوع من الانزياح.
ولأن القاعدة القانونية تحتكم إليها لحسم الخلاف، فإن القول بجواز ما جرى داخل المؤسسة المعنية لا يجد له سندا من النصوص التي تحكم التعليم العالي. بل إن كل قراءة محايدة للقانون 01.00 تقود إلى نتيجة واحدة : أن ما جرى يخالف المقصد القانوني من وجود الجامعة، ويسيء إلى رمزية الفضاء الجامعي، ويفتح الباب لتطبيع أنماط تعبيرية لا تدخل ضمن أفق التكوين العلمي، بل تميعه وتربكه .
ليس المطلوب منا أن نحاكم النوايا، ولا أن ننتقص من قيمة الفنون الشعبية في سياقها الطبيعي، ولكن من الواجب أن نحافظ على الحدود بين ما يجوز خارج الجامعة وما يجب أن يظل خارجها. فالفضاء العام الجامعي ليس امتدادا للمجتمع في فوضاه، بل هو مكان مؤسس على فكرة الانضباط، تمارس فيه الحريات تحت سقف القانون، لا رغبة الأفراد أو ضغط اللحظة .
والتالي، فإن الدفاع عن مثل هذه الممارسات لا يعد دفاعا عن الحرية ولا عن الثقافة، وإنما يعد افتئاتا على الوظيفة القانونية للمؤسسة، ومساسا بهيبتها الرمزية. والواجب يقتضي من كل من له غيرة على الجامعة أن لا يقبل أن تتحول إلى قاعة للفرجة، وأن يتصدى لمثل هذه الممارسات بتفعيل النصوص وبيانها للعموم لا بتأويلها، وباستحضار الوظيفة لا بالتغاضي عنها .
فما جرى ليس حدثا عابرا، بل مؤشر على اختلال في فهم الحدود، وعلى الحاجة الماسة إلى يقظة قانونية وأخلاقية، تعيد للجامعة صفاءها، وتمنع عنها ما ليس منها .
ياسيــن كحلـي /مستشار قانوني وباحث في العلوم القانونية