عبد الرفيع حميدي: الهشاشة المنسية.. من الرعاية الموسمية إلى الحق في الاحتضان الدائم

عبد الرفيع حميدي: الهشاشة المنسية.. من الرعاية الموسمية إلى الحق في الاحتضان الدائم عبد الرفيع حميدي

في مجتمع يعيش تحولات سريعة وتحديات معقدة، تظل بعض الفئات تعاني في صمت، بعيدًا عن عدسات الإعلام وبرامج السياسات العمومية. فحين نتحدث عن "الهشاشة"، لا ينبغي أن نحصرها فقط في الفقر الاقتصادي، بل يجب أن نوسع المدارك لنشمل الهشاشة النفسية والاجتماعية والتربوية، التي تطال فئات واسعة من أطفال هذا الوطن، على رأسهم أطفال الأحداث، نزلاء مؤسسات الرعاية (الخيرية)، الأطفال في وضعية إعاقة، وخصوصًا ذوي متلازمة الثلاثي الصبغي.

 

أطفال لا يُرَون: حين تكون الطفولة خارج دوائر الاهتمام

يتقاسم هؤلاء الأطفال مشتركًا حزينًا العزلة المؤسساتية، ضعف الاندماج المجتمعي، وغياب الرعاية التربوية المستدامة هم أطفال لا يعيشون طفولتهم كما يجب؛ يُنظر إليهم أحيانًا كـ"ملف اجتماعي"، وأحيانًا كـ"حالات خاصة"، دون أن يُعترف بهم كأبناء حقيقيين لهذا الوطن. لهم الحق في الفرح، في التعلم، في الانتماء، وفي الحلم مثل كل الأطفال، لا أقل ولا أكثر

إن استمرار هذا الإقصاء الرمزي له آثار بعيدة المدى، لا على الأطفال فحسب، بل على المجتمع بأكمله. فحين يُترك طفل في وضعية هشاشة دون تأطير ودون أفق، فنحن لا نخسر فقط فردًا، بل نخسر إمكانية بناء مواطن فاعل، وسندًا للمستقبل. إن الاعتراف بحق هؤلاء الأطفال في التربية والتأطير والفرح، ليس منّة ، بل واجب وطني وأخلاقي وإنساني، يختبر به المجتمع مدى التزامه بقيم العدالة والمواطنة والكرامة.

 

الرعاية الموسمية... لا تكفي!

فرغم بعض المبادرات المشكورة التي تُنظّم في مناسبات موسمية كرمضان، عيد الأضحى، الدخول المدرسي؛ إلا أن هذه الرعاية، مهما حسنت نواياها، تظل غير كافية ولا مستدامة. فالتربية لا تُختزل في هدية عابرة أو نزهة مؤقتة، بل هي مسار ممتد من الحضور، المواكبة، التأطير، وبناء الثقة والكرامة. وما تحتاجه هذه الفئات الهشة هو احتضان دائم: من الأسرة إن وُجدت، ومن مؤسسات الدولة والمجتمع المدني إذا غابت، لأن الحق في الرعاية ليس مناسبة، بل حق يومي لا يسقط بالتقادم.

ولهذا، فإن المطلوب اليوم ليس مزيدًا من المبادرات الظرفية، بل تغيير جذري في التصور والسياسات وأن تتحول مراكز الرعاية إلى فضاءات للتنمية، لا فقط للإيواء؛ وأن تتوفر هذه الفئات على برامج تربوية قارة، وأطر مؤهلة، ومسارات متابعة نفسية واجتماعية منتظمة، وحده هذا التمكين الحقيقي كفيل بكسر دائرة الإقصاء، وجعل هؤلاء الأطفال شركاء فعليين في بناء مغرب أكثر عدالة وإنصافًا.

 

التسول بالأطفال: حين تتحول البراءة إلى أداة للابتزاز العاطفي

وإلى جانب هذه الفئات، تبرز فئة أخرى ضحية لأحد أبشع أشكال الاستغلال: التسول بالأطفال. فقد تحولت هذه الظاهرة إلى ممارسة منظمة، تُستغل فيها الطفولة من أجل الربح السريع، عبر الابتزاز العاطفي للشارع العام. فالطفل، بدل أن يكون في حضن مؤسسة تعليمية أو وسط نشاط تربوي، يُزج به في التقاطعات والطرقات ليجلب العطف، فيما خلف المشهد شبكات وسماسرة، أو على الأقل غياب كلي للرعاية الأسرية.

إن أخطر ما في هذا الشكل من التسول هو أنه يُعيد إنتاج الفقر والحرمان في وعي الطفل، ويؤسس لثقافة تعتبر الشارع مصدرًا للعيش، والشفقة بديلاً للكرامة، ما يهدد بإدماج هؤلاء الأطفال في دوائر الانحراف والتشرد والانقطاع الدراسي، ولا يكفي في مواجهة هذه الظاهرة اللجوء إلى المقاربة الأمنية وحدها، بل لا بد من استراتيجية ثلاثية الأبعاد : الوقاية عبر تحديد الأسر في وضعية خطر، الحماية عبر تدخل قانوني عاجل والإدماج عبر تعليم وتأهيل ومرافقة دائمة.

 

المخيمات الصيفية المتخصصة... حق وليس امتياز

تشكل المخيمات الصيفية فرصة ذهبية لإعادة إدماج الأطفال، وخاصة ذوي الاحتياجات الخاصة، في الحياة الاجتماعية والعامة، بما تتيحه من تفاعل، تنشيط، واكتساب مهارات. غير أن الواقع يكشف أن هذه الفئة كثيرًا ما تُقصى من هذه الفضاءات، إما بشكل مباشر، أو من خلال برامج لا تراعي خصوصياتها النفسية، الحركية، أو التواصلية، مما يُحوّل فرصة الإدماج إلى تجربة صادمة أو هامشية. ويزداد الأمر تعقيدًا حين نعلم أن هذه المخيمات، وإن وُجدت، تتركز في بعض المناطق الساحلية دون غيرها، ما يحرم آلاف الأطفال في القرى والمجالات الجبلية والهامشية من أبسط فرص الترفيه والتنمية. وهنا يبرز تحدي العدالة المجالية، الذي يفترض أن يكون التخييم خدمة عمومية تربوية متاحة للجميع، لا حكرًا على فئات دون أخرى، أو مجال دون غيره.

 

أبناء الوطن... لا استثناء ولا صدقة

الخطأ الشائع الذي يعيق تقدم وضعية الفئات الهشة هو اعتبارها مجرد موضوعات "تضامن مناسباتي" أو أعمال خيرية عرضية، تُمارَس في مناسبات اجتماعية أو دينية معينة. هذا الانحياز يختزل حقوق هؤلاء الأطفال إلى "فضل" يُقدَّم لهم، بدلاً من أن يُنظر إليها كحقوق أساسية وجوهرية لهم كبشر وأبناء وطن، هذا التصور يُغذي شعورًا بالآخرية والوصاية، ويكرّس التمييز الرمزي والاجتماعي، حيث يتم التعامل مع الفئات الهشة ككيانات منفصلة، ضعيفة، بحاجة للشفقة، بدل أن تُدمج في نسيج المجتمع كأفراد فاعلين يمتلكون حق التأثير والمشاركة، لذا، لا بد من الانتقال من منطق "التضامن" إلى منطق "المواطنة الكاملة"، حيث تُعتبر حقوق الأطفال، خاصة الأكثر هشاشة منهم، غير قابلة للتصرف أو المساومة، ويُؤَطّر لها القانون والسياسة والوعي الاجتماعي بشكل شامل.

هذا التغيير يتطلب إصلاحات تربوية جذرية: تضمين قضايا التنوع، الاندماج، والتضامن في المناهج التعليمية، وإكساب الأطفال والقيمين عليهم مفاهيم المواطنة الفعالة والاحترام المتبادل، إعادة صياغة السياسات الاجتماعية: اعتماد استراتيجيات تستهدف تمكين الفئات الهشة عبر خدمات مستدامة، مؤسسات تأطيرية، وتكوين مهني ونفسي مستمر، وتحول في الخطاب الإعلامي: من صور الشفقة أو النداء إلى قصص القوة والتمكين، تسليط الضوء على النجاحات والقدرات، والتشجيع على الاعتراف بالمساواة، ومشاركة مجتمعية حقيقية: إشراك الأسر، الجمعيات، والمجتمع المدني في تصميم وتنفيذ البرامج، لضمان فاعلية واستدامة التدخلات.

إن الاعتراف بهذه الفئات كجزء من "نحن" الوطني هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع متماسك، يحترم الكرامة الإنسانية ويكرّس العدالة الاجتماعية. فالمواطنة لا تعني فقط الحقوق السياسية، بل تعني أيضًا ضمان الحق في التربية، الرعاية، والعيش الكريم لكل فرد، دون استثناء أو تمييز.

فلتحسين عمليات دعم الفئات الهشة من الأطفال، يجب أن يكون الإدماج مستداما، بخلق وحدات دعم تربوي ونفسي داخل مراكز الرعاية، ويجب تطوير وحدات متخصصة لا تقتصر على التعليم النظامي فقط، بل تشمل المرافقة النفسية، دعم الحياة اليومية، وتنمية المهارات الاجتماعية للأطفال، لضمان رعاية شاملة تلبي احتياجاتهم المتعددة.

كما يجب تنظيم مخيمات صيفية تخصصية ودائمة، من خلال إقامة مخيمات تربوية مؤطرة تستهدف الأطفال في وضعية إعاقة وأطفال مؤسسات الرعاية (الخيرية)، مع برامج نفسية وفنية تهدف إلى تعزيز الإدماج الاجتماعي، تطوير القدرات الذاتية، وتوفير بيئة محفزة للطفل.

ثم تأهيل وتكوين المؤطرين المختصين فالاستثمار في تدريب وتأهيل أطر تربوية متخصصة قادرة على التعامل مع خصوصيات الفئات الهشة، بدل الاعتماد على متطوعين غير مكوّنين، لضمان جودة التأطير وفعالية البرامج، وكذلك تعزيز إشراك الأسر والمجتمع المحلي من خلال تشجيع ثقافة الاحتضان المجتمعي وتحفيز الأسر على التبني أو توفير رعاية مفتوحة، بالإضافة إلى العمل مع المجتمع المدني لتعزيز الوعي بدور الأسرة والمجتمع في دعم الأطفال.

 

تحويل خدمات الدعم إلى حقوق مكفولة

التنصيص في التشريعات والسياسات العمومية على أن الدعم التربوي والنفسي للأطفال في وضعية هشاشة هو حق أساسي وليس مجرد امتياز أو بادرة إحسان، مع ضمان تمويل مستدام لهذه الخدمات

 

ختامًا

إن العناية بهذه الفئات ليست بادرة إحسان موسمية، بل هي مقياس أخلاقي وحضاري يُعبّر عن مدى نضج وتقدم مجتمعنا. فالأمم لا تُقاس فقط بنسب النمو الاقتصادي أو المؤشرات الإحصائية، بل بمدى اهتمامها ورعايتها لأطفالها الأكثر هشاشة. والرهان الحقيقي لا يكمن فقط في توفير الحماية والرعاية، بل في الاعتراف الكامل بهم، والاحتفاء بحقوقهم، وفتح كل الأبواب أمامهم ليكونوا شركاء فاعلين في بناء مغرب العدالة والكرامة.