على غير العادة، سأقول الآن كلاما هجرناه منذ أن ابتُلينا بهذا النزاع المفتعل، الذي لم يترك لنا ادنى فسحة للنظر إلى النصف المملوء من الكأس، بدلاً من الالتصاق المُبْرِح بنصفه الفارغ!!
لأول مرة، منذ عشرات المقالات المنقوعة في سيل من العدائية والعدوانية الصادرتين تحديداً من جهة الشرق من حدودنا، سأحاول أن أرسم وقفةً، ولو قصيرة الأمد، على شاشة هذا الهاتف المُثْقَل بمآسي ذلك الجِوار المُلتبِس، لأقول كلاماً يستمد حروفه من تَباريح أمهاتِنا، اللواتي لم يكنّ يفهمن في السياسة وحماقاتها إلا مثل ما يفهم بقّال الزقاق في تقنيات تخصيب اليورانيوم، أو طبيب الحي في تطريز قفاطين الفرح!!
أمهاتُنا اللواتي كُنّ يَرتُقْنَ أطمار علاقاتِنا المُلتبِسة بتلك الجارة، أو بالأحرى، علاقاتهن بأمهات ونسوة ذلك الجار، كلما قطعت السياسة منها خيوطاً أو زادت فيها فتقاً وتمزيقاً، دون أن يلتفتن، سواء في بلدنا أو في ذلك البلد الجار، إلى سُحْنات الساسة المُتَجَهِّمة وتصريحاتهم الفاقدة لكل دلالة غير دلالات الصَّلَف السياسي، والنفاق السياسي، والعبَث السياسي... وهَلُم تَلَوُّناً وحِربائيةً!!
لقد بدا لي أن "أرتكب" اليوم كلاماً لا يفهمه حُكّام ذلك الجار، لأنهم فقدوا كل عُرْوَةٍ وكل صِلةٍ بمثل هذه التعابير، التي تمتح ألف بائِها من أدبيات الماضي، وأقصد بالماضي سنوات ما قبل 1975، أو بالأحرى، ما قبل المسيرة "الخضراء" المغربية، والمسيرة "الكحلة" الجزائرية، البومدينية، عندما كانت سلطات البلدين تستعد لإصدار "بطاقة تعريف وطنية مشتركة"، تحل محل جوازات السفر في التنقل بين القطرين، وقد تسربت في ذلك الزمن الجميل بالفعل، صور لبطاقة التعريف "المغربوجزائرية"، التي لم يكن ليتحقق بعدها شيء آخر غير حلم الوحدة، ضدا في الاستعمار الذي كان، ولا يزال لشديد الأسف يحول دون تجسيد أي حلم من هذا القَبيل، وما زال يفعل!!
الدافع إلى إثارة هذه الذكرى، المخملية، ليس سوى تصريح تلفزيوني للاعب فرنسي سابق، لكرة القدم، جزائري المحتد، رفض الانصياع لتماهيات منشط البرنامج وهو يسأله باستفزازية سافرة عن موقفه من النزاع الجزائري المغربي، المؤبد كما وصفه الصحافي، فكان جوابه هادئاً، رزيناً، وحكيماً إلى درجة جعلتني شخصياً أعيد النظر في نظرتي إلى ذلك اللاعب، الذي كان فعلا أسطورة عالمية من حيث مساره الكروي، وها قد تحول بعدذلك التصريح، في تلك الحلقة، من ذلك البرنامج التلفزيوني الفرنسي، إلى عَلَمٍ من أعلام الكِياسة واللياقة والأنسنة، وهو يقول بنبرة تقطر يقيناً: "أنا ابن رجل جزائري بسيط من بلدة صغيرة بمنطقة القبائل، اضطرته ظروفه إلى الهجرة إلى المغرب بلا مال ولا زاد ولا حتى أمل في غد أفضل، فالتقطه مواطن مغربي واستضافه في بيته أسابيع دون ان يسأله عن أي شيء لمجرد علمه بأنه جزائري، إلى أن استطاع أن يغادره باتجاه الديار الفرنسية، حيث ولدتُ أنا وترعرعتُ... ولولا ذلك المواطن ابن المغرب لما تسنى لوالدي أن يأتي إلى فرنسا، ولما تسنى لي أن أكون هنا، الآن"!!
وزاد ذلك "اللاعب/الأسطورة" قائلاً لمُحاوِرِه المستفزّ، الذي كان يبحث عن عبارة عدائية يؤثث بها عناوين حلقاته القادمة: "لن أجيبك من منظور السياسة وأهلها وممارساتها الملتبسة، وإنما سأجيبك بصوت أمهاتنا الجزائريات والمغربيات اللواتي كن ومازِلن يَرتٌقْن ما مزّقته السياسة، ويجمعن ما فرّقه السياسيون، بين شعبين تجمعهما نفس اللغة والدم، ونفس المآسي والمشاعر..." وقال كلاماً آخر من هذا القَبيل تزن كل كلمة منه ثقل البرنامج ومُنشطه، وحتى جمهوره الذي كان موزّعا بين بعضٍ واجمٍ مُنكفئ
الرأس، وبعضٍ دامع تلسع فؤادَه عقارب الحسرة والتأسّي، بينما المُنشط ذاتُه فاغر الفم والندم ينزّ من عينيه بعد أن أدرك أن برنامحه لم يحقق هدفه المأجور عليه، ألا وهو جر اللاعب/الأسطورة إلى موقف يزيد طين النزاع الجزائري المغربي المفتَعَل بَلَّة!!
نهايتُه... لا أعتقد أن مقالاً مختلفاً، بهذه النبرة المختلفة عن نبرات كل المقالات السابقة، سيَلقَى آذانا صاغية لدى تلك الجارة العدوانية، والمعتدية، وإنما "ارتكبتُه" هنا، هذه المرة، لأُغَذِّيَ أَملاً ذاتياً غامِراً بأن يأتيَ يومٌ، ذات يومٍ، يَفيق فيه ذلك الجار مِن غيبوبته ومِن حُلمه التوسعي الذي يوشك أن يُحرِقَهٌ ويُحرقَ مِن حوله الأخضر واليابس... مجرد أملٍ قد لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر... مَن يدري؟!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي متقاعد.