في المطارات، لا أحد في مكانه الحقيقي. كل شيء مؤقت، كل وجه عابر، كل ابتسامة محتجبة خلف الخوف أو الأمل أو الرغبة في النجاة من شيء ما. المطار ليس بداية ولا نهاية، إنه لحظة معلّقة بين الحنين والجهل، بين ما نودّعه وما لا نعرفه بعد.
المطار برزخ العالم الحديث: نقطة التقاء وفراق ومكان لا يُراد له أن يُعاش بل أن يُغادر. في المطار، لا شيء يخصّك: الكرسي الذي تجلس عليه مؤقت، الهواء الذي تستنشقه لا يحمل رائحة أرضك، لأنه دوما في منطقة "الأوشورين"، اللغة التي تُسمع لا تطمئنك، والنظر في عيون الآخرين لا يُفهم. ومع ذلك، هو المكان الوحيد الذي يتساوى فيه الجميع مؤقتًا.
الجميع في الانتظار. الجميع عالق بين زمنين. حتى الوقت هنا لا يسير بشكل طبيعي: دقيقة الانتظار في قاعة الترانزيت قد تطول دهراً، وساعة التأخير قد تحطم مسارات حياة كاملة.
المطار يمحو أسماءنا وجنسياتنا مؤقتًا، يجردنا من التفاصيل الصغيرة التي تصنع هويتنا: لا أحد يعرفك هنا ولا أحد معني بكامل حقيبتك، ولا أحد يسألك عن صوتك في البيت أو تفاصيل صباحك.
في المطار، تصبح فقط "راكبًا" أو "عابرًا" أو "متأخرًا" أو "تائها" أو "ممنوعًا من السفر".. هو المسرح المثالي للهويات المعلّقة، حيث تختفي الألقاب، وتسقط العادات، وتتوحد الإنسانية في قلق الانتظار. قد تجلس بجانب مهاجر بلا وطن، أو مليونير يهرب من ضجره، أو طفل لا يعرف وجهته.. وقد تكون أنت، أنت نفسك، غير واثق مما تفعل هنا.
كل ما في المطار يبدو صناعيًا: الصوت، الأضواء، النظام، الأرقام التي تستبدل الأسماء، النداءات التي تُنطق بلغات لا تُشبهك. لكنّ فيه شيئًا يشبه الكنائس القديمة: رهبة داخلية صامتة، ووجوه تهمس لنفسها وأقدام تقف على أعتاب المجهول.
المطار، هو المكان الذي تبدأ فيه القصص الكبيرة وتنتهي فيه القصص الصغيرة. كم من وداع وقع هنا دون أن نعلم أنه الأخير؟ كم من دمعة سقطت تحت نظارة سوداء؟ كم من قُبلة وداع كانت أكثر صدقًا من كل العِشرة؟
في المطار، كل واحد يُخفي شيئًا ما: بعضهم يُخفي دموعه، وبعضهم يخبئ ماضيه، وبعضهم لا يحمل شيئًا سوى رغبته في ألّا يعود. هكذا، يصبح المطار فضاءً للسفر ووسيلته في الآن ذاته، لكنه أيضًا مرآة عميقة لنفوسنا المجهدة، فنحن لا نسافر فقط من مدينة إلى أخرى، بل ننتقل من فكرة إلى أخرى، من حياة إلى احتمال، من أنا إلى أنا آخر.
السفر يغيّرنا، لكن المطار يُعرّينا. هو نقطة التفتيش الكبرى لهويتنا. كل ما لسنا متأكدين منه، يظهر في المطار. الحنين، الشك، الرغبة، الخوف وحتى الندم.
هكذا هو المطار، نقطة حياد في عالم ملوّن بالانتماءات. مكان لا يريد أن يحتفظ بك، ولا أن يمنحك شيئًا. لكنه، رغم حياده، يُعلّمك أن الانتظار هو أعمق شكل من أشكال الوجود.