لحسن أوبلا: الصحراء المغربية بين تعقيدات السيادة وعبث الامبراطوريات المحلية

لحسن أوبلا: الصحراء المغربية بين تعقيدات السيادة وعبث الامبراطوريات المحلية لحسن أوبلا
كلما أحرز ملف الصحراء المغربية تقدما ملموسا على مستوى منظمة الأمم المتحدة، أو سجل تطورا جديدا في مواقف الدول الحليفة والداعمة لسيادة المملكة المغربية على أقاليمها الجنوبية، وكلما حدثت تحولات جيواستراتيجية على الصعيد الدولي كتلك المرتبطة بالصراع الإيراني-الإسرائيلي أو تغير موازين القوى بين الشرق والغرب، إلا وطفَت على السطح مجددا أصوات مناوئة تخوض حربا دبلوماسية صامتة، تقودها قوى داخلية قبل أن تكون خارجية. 
وما يلفت الانتباه أن هذه الأصوات، غالبا ما تنتمي إلى شبكات النفوذ السياسي والاقتصادي التي راكمت ثروات ونفوذا مستغلة ملف الصحراء، ليس كقضية وطنية عادلة بل كـ"مشروع ريعي" يُبتز به المركز السياسي في الرباط، ويُستثمر في سوق التوازنات المحلية. لقد تحول هذا الملف، بالنسبة إلى بعض القوى النافذة، إلى سجل تجاري تتغذى منه امبراطوريات سياسية واقتصادية بالصحراء عمرها العقود، وترتبط أحيانا بشكل مباشر بمؤسسات رسمية. 
وفي هذا السياق، بات من المألوف أن تُنظم بعض الجهات، من أحزاب وجمعيات وتنظيمات، ندوات ولقاءات ظاهرها النقاش السياسي وباطنها التشويش على الإجماع الوطني. من ذلك، ما شهدناه أخيرا من ندوة نظمتها مؤسسة علي يعتة التابعة لرفاق حزب التقدم والاشتراكية، بمشاركة شخصية تُدعى گجمولة، التي لا تتورع عن التحدث تارة بصفتها "مواطنة مغربية"، وتارة أخرى بصفتها "عائدة من مخيمات تندوف"، وكأنها تنتقي الصفة بحسب المقام السياسي. 
وقد ذهبت هذه السيدة، خلال مداخلتها، إلى حد رفض توصيف ساكنة المخيمات بالمحتجزين، مؤكدة أن هؤلاء "مواطنون أحرار" يسافرون بجوازات سفر إلى دول متعددة. بل اتهمت الخطاب الوطني المغربي بالتقليدي والمساهمة في تعقيد المشكل، ضاربة بعرض الحائط الموقف الرسمي للمملكة من أعلى مستوياته، من مؤسسة القصر مرورا بالحكومة والأحزاب السياسية ووصولا إلى المجتمع المدني. 
وما زاد من عمق هذا التناقض، هو مبادرة أحد المقربين من مالك/ملك الصحراء مولاهم حمدي ، بجمع عدد من الأشخاص تحت عنوان "عائلات معتقلي أكديم إيزيك"، في محاولة للتوسط من أجل الإفراج عن المدانين، ضاربا عرض الحائط باستقلالية القضاء وهيبة الدولة، بل ومتنازعا ضمنيا صلاحيات النيابة العامة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية. 
وفي خضم هذا المشهد، يعود إلى الذاكرة تصريح حمدي ولد الرشيد، حين قال إنهم كانوا يدافعون عن الصحراء قبل أن يعرفوا المغرب، مضيفا أنهم لم يتعرفوا على المغرب إلا بعد المسيرة الخضراء، وهو قول يعكس حرفيا أطروحة جبهة البوليساريو في نفي العلاقة التاريخية بين المغرب وصحرائه قبل نهاية الاستعمار الإسباني. 
هذا الواقع الملتبس يكشف أن المستفيد الأكبر من استدامة النزاع حول الصحراء ليس سوى الامبراطوريات السياسية والاقتصادية بالصحراء نفسها، التي عززت وجودها وتوسعت بدعم مالي وسياسي، في كثير من الأحيان، من المركز في الرباط. بل إن من أخطر ما تُبتلى به الدولة المغربية في هذا الصدد هو ترسيخ الفوارق القبلية والإثنية داخل النسيج الصحراوي، في تناقض صارخ مع الدستور الذي ينص صراحة على مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص. 
ويكفي أن نلقي نظرة بسيطة على نتائج مباريات التوظيف وتوزيع المناصب بالإدارة العمومية في الأقاليم الصحراوية، لنكتشف استحواذ أسماء عائلية بعينها، في تكريس لواقع يبدو أقرب إلى نظام إمارات قبَلية منه إلى نموذج دولة حديثة، وكأننا أمام نموذج سياسي شبيه بدول الخليج العربي. 
ولعل أكبر الخاسرين في هذه المعادلة غير المتوازنة، هي بعض قبائل تكنة بواد نون، التي قدمت الغالي والنفيس دفاعا عن وحدة المملكة، ومع ذلك تجد نفسها على هامش التمثيل السياسي والاقتصادي في الصحراء، وكأنها مغاربة من الدرجة الثانية. والأدهى من ذلك أن أسماء أبناء هذه القبائل قد استُخدمت في لوائح الاستفتاء الأممي حول الصحراء خلال العقود الماضية، رغم أن المنطقة التي ينتمون إليها لم تكن حتى ضمن ما يُسمى "منطقة النزاع" آنذاك. 
وهنا تطرح الأسئلة نفسها بحدة: لماذا زُجَّ بهذه القبائل في حسابات إقليمية ودولية لا ناقة لها فيها ولا جمل؟ هل استُعملت كأرقام فقط لتقوية الموقف المغربي في لحظة ما؟ أليس في ذلك تشكيك ضمني في وطنيتها التي ضحت من أجلها قرونا؟ بل أليس من حقها أن تعيد النظر في علاقتها مع هذا الملف، الذي تحول إلى مرتع لنخب محلية اغتنت من عائداته السياسية والاقتصادية؟ 
إننا نعيش زمنا صار من اللازم فيه أن يُرفع صوت "الأقليات المغربية بالصحراء"، تلك التي ظلت مُهمشة، تُحترم فقط عندما تحتاجها الدولة، ثم تُنسى بعد ذلك. وإن من المفارقات المؤلمة أن هذه الأقلية باتت تُعامل كعبء يجب إرضاؤه، لا كمكون أصيل من مكونات الأمة المغربية. 
بل إن بعض "أمراء الصحراء"، كما يُطلق عليهم محليا، لم يعد يربطهم بالمغرب سوى العملة الوطنية والامتيازات، في وقت تتقاعس فيه بعض الأجهزة والمؤسسات الأمنية في نقل الصورة الحقيقية إلى المركز، مستمرة في خطاب "العام زين"، بينما الواقع في الميدان يقول شيئا آخر تماما. 
إن المغرب، كما نعرفه، وطن يتسع لجميع أبنائه من الأندلس إلى نهر السينغال الذي يمثل الحدود بين دولة السينغال وما يسمى زورا بدولة موريتانيا التي هي في التاريخ والجغرافيا والدين أرض المغرب والمغاربة، ولا يمكن القبول بأي شكل من أشكال التراتبية الوطنية، أو التمييز بين المغاربة على أسس إثنية أو قبلية أو جهوية. فإما أن نكون جميعا مواطنين متساوين أمام القانون والدولة، أو أن نُقر بأننا أمام سلطات موازية، لا تعترف إلا بمنطق الريع والنفوذ.
اللهم إلا إذا كانت هناك بيعة أخرى لم نُخبر بها، فنحن لا نعرف سوى بيعة واحدة: "بيعة الوطن، الملك، والدستور"، ونحمل عَلما واحدا، ونؤمن بسيادة وطن لا يقبل القسمة على اثنين.