ووقفت هذه الخارطة عند معضلة السياحة الداخلية لتقول بصيغة "مبهمة" تخص وجوب تشجيع السياحة الداخلية من "خلال استكشاف الطبيعة". وللتذكير، فقد خصصت الحكومة لهذه "الخطة الإستراتيجية" مبلغ6,1 مليار درهم من أموال دافعي الضرائب، وأكثرهم من ذوي الدخل المحدود. وهكذا قالت الحكومة للمواطن المغربي الذي يريد أن يقضي عطلته على الشاطئ، أو في الجبال أن يعد نفسه لاستكشاف الطبيعة، والابتعاد عن المناطق التي أصبحت خارج قدرته الشرائية. وتغافلت هذه الخطة الإستراتيجية تشوه مظاهر جذب السياح الأجانب دون التركيز على مقاييس إمكانياتهم المالية. وها نحن نشهد اكتظاظ مطاراتنا بسياح أجانب لا يملكون في جيوبهم أكثر من 10% مما يجبر المسافر المغربي على أن يقدمه للحصول على تأشيرة شنغن، أو لتجاوز نقاط ختم الجوازات في مطارات أو موانئ أوروبا. وستظل السياحة الداخلية مرفوضة من طرف عشاق التعامل مع السائح الأجنبي المفترض أنه ذو قدرة شرائية مذهلة. وستنهار كل التحفيزات للمواطن المغربي، كما انهار "برنامج كنوز" الذي سوق لانخراط كثير من الفنادق، قبل سنين، لتشجيع السياحة الداخلية عبر أسعار خاصة بالمغاربة. فانقلب سحر التحفيز إلى إبعاد ممنهج للطبقة الوسطى من بنيات سياحية استفاد أغلبها من كرم ضريبي ومنح من الميزانية منذ أكثر من خمسين سنة. المشكل يتلخص في حكامة اقتصاد، وفي ضعف كبير للقضاء على بؤر الاغتناء عن طريق الريع الذي يضعف الإرادة الاستثمارية الحقيقية والمنتجة للثروات.
ظل الكثير منا ينتظر فصل الصيف لكي ينال حظه من المصيف، ويرتاد على أحب الشواطئ إليه، ويكون قبل ذلك، قد أعد، بكثير من التدقيق، ميزانية عطلة تريحه نسبياً من عناء سنة بكاملها. وتغير الأمر كثيراً، وتوقف معه طموح قضاء أسابيع في مناطق جبلية أو شاطئية. أصبحت الشقق ذات سعر يومي، والفنادق ذات سعر يحرق كل ما تم ادخاره. كانت الطبقة الوسطى تتخذ من بعض الفنادق مرتعاً لقضاء أيام سعيدة، ولكنها أصبحت تكتفي بما يوجد في جيب أرباب الأسر.
وكم روجت الحكومات المتعاقبة من برامج لتشجيع السياحة الداخلية، ولكنها نجحت في وضع حدود مالية بين الطبقة الوسطى وكثير من الفنادق التي تصنف كمتوسطة. وظل السائح الأجنبي هو المحظوظ والمستفيد من الأسعار المنخفضة طيلة السنة.
ليس بالإمكان أفضل مما كان
قديماً قال الشاعر: "سافر تجد عوضاً عمّن تفارقه...وانصب فإن لذيذ العيش في النصب...إني رأيت وقوف الماء يفسده...إن سال طاب، وإن لم يسل لم يطب". وقيل في فوائد السفر إنها سبع، أساسها التواضع من أجل الفهم، والقدرة على الإبداع، والشعور بالثقة، والتحفيز على التعاطف وتعميق فهم الحياة. كم هي جميلة هذه الحكم والفوائد، وكم هي بعيدة عن شراسة معيقات السفر في زمن السياسات العمومية التي ترفع الشعارات، ولا تقيم الإنجازات.
كانت العطلات الموسمية فرصة للسفر والاستجمام لكثير من الأسر ذات الدخل المحدود. يتذكر الكثيرون من مواليد الخمسينات والستينات وحتى السبعينات صباحات شهر غشت. يتم حزم الحقائب، وإعداد ما يلزم من أدوات الطهي ومن التوابل وبعض اللحوم المجففة. كانت أغلب الأسر تلجأ إلى وسائل النقل المتاحة، بما في ذلك "الكوتشي" للوصول إلى محطات الحافلات أو القطار. تبدأ الرحلة المؤدية إلى المدن الساحلية بفرح كبير. كان رب الأسرة يبرمج السفر بعد أن يكون قد قام بتأجير بيت ودفع واجب الكراء.
توالت البرامج التي قيل إنها ستشجع السياحة الداخلية منذ عقود. واستقر رأي الأغلبية خلال اتفاق مكوناتها على تضمين برنامج الحكومة "خارطة الطريق الإستراتيجية لقطاع السياحة"، ولا زالت كل مشاريع قوانين المالية تبشر بالاستمرار في التأكيد على نيتها لمواصلة الاهتمام بهذا القطاع.
لم نكن قبل سنوات نتكلم عن سياحة داخلية أوعن هجرة الأدمغة. تغير الحال، وتغيرت معه تصورات المغاربة عن العطلة. ووصلنا اليوم إلى واقع آخر، تحول من خلاله "السمسار" إلى سمسرة افتراضية تديرها خوارزميات. وأصبح الأمر تحت سيطرة السمسرة الخاضعة للذكاء الاصطناعي. تحاول أن تسافر داخل بلادك عبر الاتصال بفندق، فلا تجد سبيلاً إلى الكلام مع موظف في فندق، بل مع كمبيوتر مبرمج في إحدى الجزر التي تفصلك عنها آلاف الكيلومترات. سماسرة اليوم مليارديرات لمجرد أنهم يمتلكون مواقع على الإنترنت وبرمجيات تجعل منهم أثرياء.
السائح الأجنبي أولوية وليس المغربي
كلما حلت بخاطري رغبة في السفر إلى مدينة في بلادي، أفتح هاتفي المحمول للحصول على معلومات تهم الموقع والأسعار. تتساقط أمامي أمطار من المعلومات، ولكن الذي يقلقني، كغيري من محبي السفر، هي تلك الأسعار المخيفة والصاروخية التي يبلغها لي الهاتف الملعون، والنذير بما سيصيب جيبي من ثقوب، إن حاولت الاقتراب من الفنادق أوالشقق الفندقية.
أصبح رقم 2000 و3000درهم في فنادق عادية دافعاً لغلق التلفون. قرأت قبل أيام أن والي طنجة صرخ أو"تنرفز" في وجه أحد المستشارين، الذي تكلم عن ضعف الطاقة الفندقية الاستيعابية بهذه المدينة الجميلة. وأدعو السيد الوالي إلى الاطلاع على أسعار الفنادق بطنجة للتأكد من طغيان ضعف العرض أمام حجم الطلب على الفنادق. وأدعو كل من شك في غلاء الفنادق أن يحاول البحث عن حجز في كثير من مدن المغرب السياحية بدءاً بمراكش ووصولاً إلى طنجة دون استثناء الدار البيضاء والرباط وأكادير والصويرة وتطوان. الأسعار لا علاقة لها بتلك التي يستفيد منها السياح الأجانب. ولمن يشك في هذا الكلام فليُسرع إلى الاطلاع على المعطيات الإحصائية لمكتب الصرف. خلال الشهور الثلاثة الأولى لهذه السنة، تزايد عدد السياح الأجانب بأكثر من22%، بينما لم تسجل عائدات السياحة أكثر من3.5%. وهذا التفاوت يعكس ما يستفيد منه السائح الأجنبي في بلادنا. ويعكس أيضاً لجوء كثير من الأجانب إلى كراء غرف لدى أسر في أحياء شعبية، والحصول على وجبات بدراهم معدودات. وهكذا أصبح المغرب في قمة البلدان المشهورة بأكل الشوارع والأزقة "الفود ستريت".
ولا زلت أبحث عن سعر الفنادق في بلادي وأقارنها بأسعار فنادق إسبانيا والبرتغال وتركيا وكثير من دول آسيا. أصبح سعر2000درهم في فنادق عادية متداولاً "وبلا حشمة ولا حياء". ومن شك في هذه الوضعية فليدخل إلى مواقع الحجوزات الفندقية. تشجيع السياحة الداخلية شعار فارغ. وتظل بعض جمعيات الأعمال الاجتماعية، وخصوصاً تلك التي يستفيد من خدماتها نساء ورجال التعليم، تقدم خدمات فندقية عالية المستوى بأسعار تناسب القدرة الشرائية لمن لا قدرة له على مواجهة موجة الغلاء التي تعرقل السياحة الداخلية.
تزايد الأداء نقداً في كثير من الفنادق
ولا زالت دار لقمان على حالها. حاولت إدارة الضرائب تنظيم عمليات أداء فواتير الفنادق عبر البطاقات البنكية، ولكن عديداً من الفنادق توصي موظفي الاستقبال بالتأسف عن الأعطال التي تصيب آلات الدفع بالبطاقة. ويتفهم كثير من نزلاء الفندق صعوبة شبكة الإنترنت، فيؤدي الفاتورة نقداً. والأمر معتاد لدى الكثير من المصحات الخاصة. ويعد هذا الأمر خطيراً لأنه يساعد على التملص الضريبي وعلى غسيل الأموال، وبالأخص على ارتفاع حجم الأموال المتداولة نقداً داخل منظومة الكتلة النقدية. تذهب إحصائيات بنك المغرب بأن مبلغ التداول "بالكاش" بلغ400مليار درهم. ويُستنتج من هذا الرقم أن عملية "السلم الضريبي" التي مكنت من تصريحات بلغت أكثر من100مليار درهم، لم يكن لها تأثير على حجم الأموال المتداولة. ويوجد قطاع الفنادق وكراء الشقق والكثير من المطاعم على رأس من لا علاقة لهم بالأداء الإلكتروني أو بالشيك.
إمكانية الاقتصاد التضامني في دعم السياحة
وسنظل نتكلم عن السياحة الداخلية إلى مرحلة قد يعمّ خلالها اليأس. وستظل كل سياسة تعتمد على مبادئ الاقتصاد التضامني الاجتماعي هي الوسيلة للولوج إلى الاستفادة من منتوجات السياحة الداخلية. ويجب التأكيد على أن دعم هذا الاقتصاد، بكل الوسائل التي يستفيد منها كبار المستثمرين في مجالات العقار والفلاحة والتصدير والصيد في أعالي البحار، سيخلق دينامية لخلق قيم إضافية كبيرة، ويفتح أبواباً تخفف من معاناة الطبقة الوسطى. هل أمعن الوزراء ورؤساء الأحزاب في اختيارات بلادنا، وأبدوا جرأة لنقدها، وإظهار وعيهم بأهمية القطاع في دعم ميزان الأداءات، وفي تعزيز القيمة المضافة لقطاع الخدمات؟
وجب الإخبار أن مداخيل تركيا من السياحة بلغت في سنة 2024 حوالي 64مليار دولار، مع العلم أن هذا البلد أغلق أكثر من 4000 فندق لوجود أخطاء قد تسيء إلى سلامة السياح. وهناك أرقام تهم دولاً آسيوية، مرت بمراحل عصيبة قبل سنوات، حققت أرقاماً في قطاع السياحة تجاوزت ما اعتبرناه خارطة الطريق الإستراتيجية في بلادنا.
الذكاء الاصطناعي يعدد نقائص السياحة
وحاولت أن أبحث عما يقوله الذكاء الاصطناعي عن السياحة الداخلية ببلادنا، فكانت خلاصاته متطابقة مع ما يعبر عنه المواطن عن السياحة الداخلية. وقد حدد هذا الذكاء معيقات سياحتنا في ثمانية محاور يمكن تلخيصها في: ضعف القدرة الشرائية للمواطنين، وغلاء أسعار الخدمات السياحية، وضعف البنيات التحتية والترويج للمنتوج السياحي، وسوء معاملة السائح، ونقص في التنويع والأنشطة الترفيهية. وزاد هذا "الذكاء الاصطناعي" من حدة خلاصاته ليصل إلى معيقات ذات طابع ثقافي في بعض الجهات المحافظة التي تشكل قيوداً اجتماعية. وركزت الخلاصات الختامية على غياب سياسة واضحة لتشجيع السياحة الداخلية عبر تخطيط إستراتيجي أوتحفيزات حقيقية.
وتظل هذه الخلاصات مستقاة مما تمت كتابته أو قوله من طرف مواطنين أو مهتمين بشأن عام يهم فئات كبيرة من المغاربة.
قطارات لا تساهم في النقل السياحي
كنا نحلم قبل سنوات بقطار يقلص المسافات في المغرب، وبدأت النتائج تظهر وتدفع المواطنين إلى الإقبال على القطار. ولا زال القطار يحتاج إلى قاطرة مؤسساتية لإصلاح كثير من الأعطاب. حلمنا بميناء كبير، فأنجزنا ميناء طنجة المتوسط الذي أصبح عالمياً بامتياز، ولا زلنا ننتظر ميناء الداخلة والناظور وموانئ أخرى. ويجب أن يستمر حلمنا لتضييق الهوة بين قدرة طبقة وسطى وبين الولوج إلى بنيات سياحية في الشاطئ والجبل.
والأمر كبير ويضم قطاعات كثيرة يجب أن تحمل شعار محاربة الفوارق الاجتماعية والمجالية. وهذا شعار دولة نطق به، غير ما مرة، ملك البلاد. ويجب أن يظل مقياس مردودية أية سياسة عمومية هو ما تضيفه إلى معدل نمو الناتج الداخلي الإجمالي، وتأثيرها على سوق الشغل، وتقريب البلاد من مرحلة الاقتصاد الصاعد.
وسأظل أقارن بلادي بمسار الفيتنام الذي كان يحترق بفعل قنابل أمريكا إلى غاية1971، ويصل ناتجه الداخلي الإجمالي في سنة2024إلى500مليار دولار مقابل حوالي160مليار دولار في بلادنا. لا زلنا، كمغاربة، نؤمن بأن الحكامة في مفهومها الإستراتيجي والحقوقي والسياسي، والقانوني، والمحاسباتي، للقضاء على مظاهر الريع، يمكن أن تقودنا إلى مسار تنموي يتجاوز ما حققته الفيتنام وكثير من نمور آسيا.