لم تكن المواجهة العسكرية الأخيرة بين طهران وتل أبيب، التي امتدت اثني عشر يومًا، سوى حلقة مكثفة من صراع استراتيجي طويل يتجاوز الحسابات العسكرية المباشرة. فقد كشفت الضربة الأميركية الدقيقة على المنشآت النووية الإيرانية عن تحول نوعي في قواعد الاشتباك، وعن نفاد صبر واشنطن من المراوغة الإيرانية المتكررة في ما يخص ملفي البرنامج النووي والصواريخ الفرط صوتية.
ورغم أن الضربات لم تُسقط النظام، فإنها أحدثت تصدعات عميقة في صورته، داخليًا وخارجيًا، ودفعت به إلى مربع المناورة بدل المواجهة المباشرة. فطهران، التي تجيد فن البقاء على الحافة، اختارت مجددًا التهرب من الدخول في مفاوضات مباشرة وشفافة مع الولايات المتحدة، تفضي إلى اتفاق نهائي وواضح حول تفكيك مشروع القنبلة النووية والتخلي عن سباق التسلح الصاروخي، مقابل فتح صفحة جديدة تنصبّ على أولويات التنمية والاستجابة للمطالب الاجتماعية والاقتصادية الملحّة للشعب الإيراني.
لكن الرسالة الأميركية كانت هذه المرة أكثر وضوحًا وحدّة. فالرئيس دونالد ترامب لم يكتفِ بالتحذير، بل أعلن بصريح العبارة أن صيف هذا العام سيكون مفصليًا لمستقبل الجمهورية الإسلامية. فإما أن يتخلى النظام عن طموحه النووي بشكل لا رجعة فيه، وإما أن يواجه معادلة جديدة لا تستبعد تغييرًا جذريًا في بنية القيادة الإيرانية ذاتها.
هذا التصريح لا يندرج في إطار الحرب النفسية فحسب، بل يعكس إرادة سياسية واضحة لإعادة تعريف قواعد الاشتباك مع إيران من موقع الهيمنة لا المهادنة. فالولايات المتحدة، في ظل إدارة ترامب الثانية، ترى أن رهان العقوبات وحده لم يعد كافيًا لضبط اندفاعة طهران نحو التسلح النووي، خصوصًا في ظل تسارع التعاون العسكري بين إيران وكلٍّ من روسيا وكوريا الشمالية، ما يعزز القلق من نقل المعرفة النووية أو تكنولوجيا الصواريخ العابرة للقارات.
في العمق، تكمن معضلة إيران في مفارقة بنيوية: فهي نظام ثوري يسعى إلى الحفاظ على أدوات الردع الاستراتيجي، لكنه محكوم في الوقت ذاته ببنية اقتصادية هشة، ونسيج اجتماعي متململ، وطبقة وسطى أنهكتها العقوبات والتضخم والبطالة. ومن هنا فإن التمسك بالمشروع النووي لم يعد فقط خيارًا استراتيجيًا، بل أصبح عبئًا داخليًا يقوّض شرعية النظام نفسه.
الشارع الإيراني، الذي سبق أن عبّر عن سخطه خلال موجات احتجاج سابقة، ينظر بعين الشك إلى أولويات النظام. فالاستثمار في أجهزة الطرد المركزي وتطوير الصواريخ الفرط صوتية يبدو بعيدًا كل البعد عن تطلعات الشباب الإيراني الباحث عن فرص عمل، والطبقات الفقيرة التي تكافح من أجل البقاء في ظل تدهور الريال وارتفاع أسعار المواد الأساسية.
على هذا النحو، تبدو إيران محاصَرة بين سندان الخارج ومطرقة الداخل: أميركا تصعّد الضغوط وتلوّح بعقيدة “تغيير القيادة لا السلوك”، بينما الشارع الإيراني يضيق ذرعًا بمشاريع القوة الرمزية التي لا تترجم إلى تحسين في الواقع المعيشي.
السؤال الاستراتيجي المطروح اليوم هو: هل تملك طهران هامش المناورة الكافي للاستمرار في سياسة الهروب إلى الأمام، أم أن لحظة التغيير أصبحت أقرب من أي وقت مضى؟ المؤشرات حتى الآن توحي بأن النظام الإيراني يراهن على الزمن، وعلى تفكك الجبهة الغربية، وعلى استمرار الدعم الروسي الصيني. لكن التاريخ يعلّمنا أن الأنظمة التي تُصر على تجاهل التصدعات الداخلية، وتُفرط في رهانات الجيوبوليتيك، سرعان ما تجد نفسها أمام انهيارات غير محسوبة.
إن ما يجري اليوم ليس فقط صراعًا على قنبلة نووية، بل معركة فاصلة بين مشروع دولة يعيش على منطق الثورة، وشعب بدأ يتطلع بجرأة إلى دولة تعيش على منطق الحياة.
صيف هذه السنة سيكون شرق أوسطه ساخنا جدا بكل تاكيد!