عبد العزيز الخبشي: تاونات بين وفرة السدود وعطش السكان.. مأساة توزيع الماء والعدالة المجالية

عبد العزيز الخبشي: تاونات بين وفرة السدود وعطش السكان.. مأساة توزيع الماء والعدالة المجالية منظر من دوار غرس جماعة سيدي الحاج امحمد دائرة غفساي
يتحدث عبد العزيز الخبشي، المتتبع للشأن العام، عن معاناة إقليم تاونات من أزمة عطش حادة رغم توفره على سدود كبرى وسعة مائية هائلة، بسبب سوء تدبير الموارد المائية وتحويل المياه إلى المدن الكبرى على حساب السكان المحليين. هذا الإهمال، حسب المتحدث، يعكس تهميشًا سياسيًا واجتماعيًا، ويحول حق الماء إلى امتياز طبقي، مما يجعل سكان تاونات يعانون يوميًا من نقص الماء ويطالبون بقرار سياسي حازم يضمن توزيعًا عادلاً ويحفظ كرامتهم.
فيما يلي وجهة نظر عبد العزيز الخبشي:


في قلب جبال المغرب الغنية بالمياه، وبين مرتفعات الريف الغربي، يتمدد إقليم تاونات على امتداد جغرافي شاسع، يحتضن منابعه الغزيرة وسدوده الكبرى، لكنه يئن من العطش كأن لعنة غامضة تحرمه من حقه الطبيعي في الماء. مفارقة تدمي القلب وتفضح وجهاً من وجوه السياسة التنموية المتعفنة، حيث تغيب العدالة المجالية، وتتجلى المفارقة الصارخة بين الوفرة الطبيعية والحرمان اليومي. إن معاناة سكان هذا الإقليم، خاصة في فصل الصيف، لا يمكن تفسيرها إلا ضمن منطق التهميش الممنهج الذي حول الماء من نعمة إلى لعنة، ومن حق إنساني إلى امتياز طبقي. 
حين ننظر إلى الخارطة المائية للإقليم، نكتشف مشهداً يحسد عليه، على الورق على الأقل: سد الوحدة، ثاني أكبر سد في إفريقيا، بطاقة تخزينية تتجاوز 3.8 مليار متر مكعب، وسد إدريس الأول الذي يفوق حجمه 1.2 مليار متر مكعب، وسد بوهودة بطاقة تبلغ حوالي 90 مليون متر مكعب، وسد أسفالو بنحو 70 مليون متر مكعب، ثم سد السهلة بسعة تصل إلى نحو 43 مليون متر مكعب. هذه السدود الخمسة الجاثمة على تراب الإقليم تمثل شبكة مائية هائلة، يُفترض أن تجعل تاونات إحدى أغنى مناطق المغرب من حيث وفرة الماء. أما السدين الجديدين، سد بنعبو بجماعة عين معطوف، وسد واد أولي بجماعة الرتبة، فهما في طور الإنجاز ويُنتظر أن يزيدا من الغلاف التخزيني المائي بمئات الملايين من الأمتار المكعبة. إلى جانب ذلك، يطفو منبع بوعادل كأحد أبرز المنابع الطبيعية على الصعيد الوطني، يشق الجبال ويُغذي الوديان قبل أن يضيع في شبكة غير عادلة من التحويلات والأنابيب الموجهة إلى المدن الكبرى. 
لكن هذا الرصيد الهائل من المياه لم يمنع القرى والتجمعات السكانية بتاونات من الاصطفاف يومياً أمام الصهاريج المتنقلة، أو التسول من العيون الموسمية التي تنضب مع أول موجة حر. النساء يقطعن الكيلومترات بحثاً عن جرعة ماء، الأطفال يحملون القنينات البلاستيكية الفارغة، والشيوخ يترقبون مرور صهريج قد لا يأتي. إنه مشهد يومي مأساوي، ينتمي إلى زمن الحصار والقحط، وليس إلى القرن الحادي والعشرين. من جماعات مرنيسة إلى أحياء طهر السوق، ومن أعالي بوعادل وعين مديونة إلى دواوير جماعات غفساي، ومن جماعات قربة با محمد إلى دواوير جماعات تيسة، يمتد العطش كقدر مرسوم على جبين الناس، لا يُمحى لا بخطب المسؤولين ولا بتقارير المشاريع. 
المفارقة العنيفة أن الدولة استثمرت مليارات الدراهم في مد قنوات تحت الأرض، تشق التراب التاوناتي كالأوردة اليابسة، لكنها معطلة عن التشغيل، محروسة بسلاسل من البيروقراطية والتقاعس والتلاعبات. مشاريع الربط بالماء الصالح للشرب تحولت إلى مقاولات للتباهي في المناسبات الرسمية، أو واجهات للفساد والسمسرة. فلا أثر لتلك القنوات في البيوت، ولا ماء في الصنابير، ولا جواب من الجهات المعنية غير عبارات التسويف والتبرير العقيم. وكأن تاونات ليست سوى مزرعة خلفية تُسلب منها المياه لتغذية أحزمة المدن الكبرى، دون أن تُمنح أدنى شروط الحياة الكريمة. 
إن ما يجري ليس فقط فشلاً في التدبير، بل هو تجسيد لعلاقة غير متكافئة بين المركز والهامش، بين الرباط وتاونات، بين العاصمة التي تستهلك وتصدر الخطابات، والقرية التي تنتج وتدفع الثمن. هو نموذج مصغر لعلاقة استعمار داخلي، حيث يُحول الريف المغربي إلى خزان مائي وكهربائي وغذائي، بينما يُترك سكانه تحت رحمة العزلة والجفاف والقهر التنموي. وهذا ما يُفسر الصمت الرهيب الذي يطوق معاناة السكان، إذ لا صوت لهم في مؤسسات القرار، ولا مكان لهم في خارطة الأولويات. 
الحق في الماء ليس ترفاً ولا منحة. إنه شرط للكرامة، للحياة، للبقاء. وكل ما عدا ذلك هو خطاب زائف يجمّل الفشل. إن هذه المأساة ليست فقط اجتماعية أو تقنية، بل هي سياسية بامتياز. حين يتحول الماء إلى امتياز طبقي، وحين تُنجز مشاريع لا تصل نتائجها إلى المستفيدين المفترضين، فنحن أمام نمط حكم يُكرس الغبن ويُعيد إنتاج الفقر. والأنكى من ذلك، أن الخطاب الرسمي يستمر في ترديد نغمة "الاستثمار في البنيات التحتية" بينما يجف حلق الفلاح، وتذبل شجرة الزيتون، وتُهاجر النساء بحثاً عن الماء. 
وما من مؤشر على قرب نهاية هذا الكابوس. فحتى السدود الجديدة المنتظرة، لا ضمانات بأن تُستغل في تحسين أوضاع السكان، مادام منطق "التفريغ نحو المدن" هو السائد. الدولة تمارس نوعاً من العنف الرمزي على سكان تاونات، عبر التجاهل الممنهج وحرمانهم من أبسط الحقوق. ومن العبث الحديث عن تنمية في غياب الماء، وعن كرامة في ظل العطش، وعن وطن يتسع للجميع بينما يموت جزء منه عطشاً على ضفاف أكبر سدوده. 
إن الصمت على ما يجري هو تواطؤ، وغض الطرف خيانة. تاونات لا تحتاج إلى دراسات ولا إلى لجان تفتيش، بل إلى قرار سياسي حازم يُنصف الإنسان قبل الحجر، يُحرر الماء من قبضة المصالح، ويضع الساكنة في صلب الأولويات. أما غير ذلك، فلن يكون سوى استمرار في قتل بطيء لناس هذه البلاد، أولئك الذين يصبرون بصمت، لكنهم لم يعودوا يثقون في وعود لا تروي عطشاً، ولا تبني حياً، ولا تزرع زيتونة. 
في بلد يعاني الفلاح من أجل قطرة، بينما تصب السدود في أنابيب تمتد نحو الحواضر، لا يمكن الحديث عن عدالة ولا عن مواطنة. وفي تاونات، حيث الماء يملأ السدود وتبقى البيوت عطشى، هناك مأساة لا تُروى في نشرات الأخبار، بل تُروى كل يوم في صمت الحناجر اليابسة ودموع النساء المنكسرات. إنها ليست أزمة مياه، بل أزمة حكم، أزمة توزيع، وأزمة أخلاق سياسية. وما لم تنقلب هذه الموازين، فسيظل الماء غنيمة والسكان مجرد أرقام في تقارير التنمية البشرية التي لا تشرب.