المغرب والقضية الفلسطينية: مواقف والتزامات مبدئية وتحركات عملية

المغرب والقضية الفلسطينية: مواقف والتزامات مبدئية وتحركات عملية اجتماع للجنة القدس التي يترأسها الملك محمد السادس ( صورة من الأرشيف)
أكدت مجموعة التفكير و البحث والتحليل الدبلوماسي على أن الاهتمام المغربي، الذي جعل من القضية الفلسطينية قضية إجماع وطني في مقام الوحدة الترابية للمملكة يعزى في معظمه إلى الارتباط الروحي والتاريخي للمغاربة بالأراضي المقدسة، كما أبرزت اطمئنان الدول الإسلامية إلى نبل مساعي الملك الحسن الثاني والتأكد من ابتعادها عن أي توظيف سياسي ذا طابع انتهازي أو مصلحة وطنية ضيقة مما جعلها تلتمس من الملك محمد السادس مواصلة الاضطلاع برئاسة لجنة القدس.
جريدة " أنفاس بريس " تنشر ورقة مجموعة التفكير و البحث والتحليل الدبلوماسي...
 
ينبع اهتمام مجموعة التفكير والتحليل الدبلوماسي بالقضية الفلسطينية من الاهتمام الكامل والدائم، والمتواصل للمغرب ملكا وحكومة، وشعبا بهذه القضية، وذلك منذ بداية تدويلها سنة 1947 بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الخاص بتقسيم أرض فلسطين إلى دولة يهودية أعلن عنها تحت اسم إسرائيل في 15 مايو 1948، ودولة عربية لم تر النور قط وإنما ضمت الأراضي المخصصة لها إلى إمارة شرق الأردن حينها ( المملكة الأردنية الهاشمية حاليا).
 
إن هذا الاهتمام المغربي، الذي جعل من القضية الفلسطينية قضية إجماع وطني في مقام الوحدة الترابية للمملكة يعزى في معظمه إلى الارتباط الروحي والتاريخي للمغاربة بالأراضي المقدسة، ولاسيما مدينة القدس الشريف أولى القبلتين وثالث الحرمين التي كانوا يعتبرون زيارتها تكملة لمناسك الحج إلى بيت الله الحرام، وفرصة لإحياء صلة الرحم بمدينة الإسراء والمعراج التي تحمل إحدى أبوابها اسمهم إلى حد الآن "باب المغاربة." مجموعة البحث
 
وقد تجلى هذا الاهتمام المبكر حتى قبل نيل المغرب لاستقلاله، إذ تشير العديد من الوثائق إلى مشاركة متطوعين مغاربة في الحرب العربية الإسرائيلية الأولى التي اندلعت سنة 1948، وتواصل مباشرة بعد الاستقلال متجسدا في العديد من المحطات التاريخية ذات الدلالة لعل أبرزها الزيارة التاريخية التي قام بها جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله إلى بيت المقدس سنة 1960 ت المقدس سنة 1960، وتبرعه بفرش المسجد الأقصى بالزرابي إلى بيت المغربية الأصيلة. Groupe
 
ومع توالي التطورات التي عرفتها القضية الفلسطينية، التي غدت قضية عربية وإسلامية بامتياز ستتوالى أيضا مظاهر التعلق المغربي بعدالة هذه القضية، والاستعداد الكامل والفوري للتفاعل معها، والتحرك المتواصل لنصرتها، الذي سيتضح عمليا في أكثر من مناسبة لعل أبرزها:
 
مبادرة جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله إثر إحراق المسجد الأقصى سنة 1969 إلى توجيه الدعوة لعقد أول مؤتمر إسلامي بالرباط بغية وضع اللبنات الأولى لانطلاق عمل إسلامي يهدف إلى الدفاع عن القدس الشريف وحماية بقاعه المقدسة ومعالمه الحضارية، مؤتمر أسفر عن إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي حاليا).
نجاح العاهل المغربي في إقناع قادة الدول العربية في قمتهم الثامنة بالرباط سنة 1974 لاعتبار منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، علما بأن وثائق الأمم المتحدة آنذاك. وخاصة قراري مجلس الأمن الدولي 242 و 338 كانت ما تزال تعتبر هذا الشعب مجرد مجموعة من اللاجئين.
 
إن هذه التحركات العملية الملموسة للمغرب، والصدى الإيجابي الواسع لها على الساحة الدولية ستدفع بالدول الإسلامية بعد إحداث لجنة للقدس سنة 1975 إلى إسناد رئاستها إلى ملك المغرب وذلك خلال المؤتمر العاشر لوزراء خارجية الدول الإسلامية المنعقد بمدينة فاس سنة 1979 ؛ وهي الرئاسة التي قبلها جلالته بصدر رحب، متعهدا ببذل قصارى الجهود ، وسلوك كل سبيل صالح ، وكل مسلك نافع دفاعا عن قضية القدس وتعريفا بعدالتها لتعود مدينة السلام من جديد في ظل السيادة العربية مرادا يتسم بالتسامحالديني والتعايش والتساكن... بين المؤمنين المنتمين إلى مختلف الأديان. (1)"
 
ولاشك، فإن اطمئنان الدول الإسلامية إلى نبل مساعي الملك الحسن الثاني والتأكد من ابتعادها عن أي توظيف سياسي ذا طابع انتهازي أو مصلحة وطنية ضيقة هو ما سيجعلها تلتمس من وارث سره جلالة الملك محمد السادس نصره الله مواصلة الاضطلاع برئاسة لجنة القدس، التي ستعرف تحت مسؤولية جلالته توسعا كبيرا في نشاطها ليتجاوز النطاق الدبلوماسي إلى العمل الميداني على أرض الواقع من خلال تفعيل وكالة بيت مال القدس الشريف، التي أعلن عن إنشائها سنة 1995 ، وعن بدء مزاولة نشاطها الرسمي سنة 1998
 
لقد كانت الفكرة الأساسية من وراء إنشاء هذه الوكالة هي مواجهة سياسة التهويد المتعددة الأوجه التي انتهجها الاحتلال الإسرائيلي في المدينة المقدسة، التي ضم جزءها الشرقي إليه، وأعلنها عاصمة موحدة الدولته، وذلك من خلال تعزيز صمود المقدسيين في مدينتهم عبر دعم وتمويل برامج ومشاريع اجتماعية وإنمائية تساعدهم على الصمود، وعدم الرضوخ لوسائل الترغيب والترهيب الممارسة عليهم لبيع عقاراتهم. ولهذا لا غرابة في أن نرى نشاط الوكالة يغطي مجالات واسعة تمتد من التعليم والثقافة وإعادة تأهيل الموروث العمراني إلى الصحة والتنمية البشرية وتوزيع المواد التموينية والمساعدات الإنسانية .
 
ورغم تعدد الوعود العربية والإسلامية بالمساهمة في ميزانية الوكالة، التي أثبتت جدية وريادة في عملها من خلال إنجاز أزيد من 200 مشروع حيوي بكلفة مالية ناهزت 90 مليون دولار، فإن المغرب ظل يتكفل وحده بتمويل كافة أنشطتها المتنوعة، ويتحمل التبعات السياسية لكل تحركاتها، التزاما منه بتعهدات رسمية قدمها على لسان وزير خارجيته إلى السلطة الوطنية الفلسطينية بالعمل على التجاوب بشكل إيجابي وفعال مع كافة متطلباتها من دون السؤال عن كيفية تحقيق ذلك التجاوب.
 
وانطلاقا من التجسيد العملي لتلك التعهدات الذي يعكس المصداقية الكبيرة التي يتمتع المغرب بها لدى كافة القوى الدولية والإقليمية المتدخلة في القضية الفلسطينية سنلاحظ بأن أنشطة وكالة بيت مال القدس الشريف لا تنحصر في مدينة القدس فقط، وإنما تمددت وتتمدد لبناء وإصلاح مؤسسات تعليمية وتربوية ولتوفير معونات إنسانية غذائية وطبية في عموم الضفة الغربية ولساكنة قطاع غزة أيضا، التي استفاد سكانها أكثر من مرة بمعونات غذائية وطبية مغربية رغم الحصار المفروض على القطاع، كانت آخرها العملية التي انتهت يوم 11 يونيو 2025 عندما أنهت فرق الإغاثة التابعة لجمعية ارتقاء للتنمية المجتمعية بغزة توزيع 500 سلة غذائية متكاملة بمبادرة من وكالة بيت مال القدس الشريف، وتمويل جمعيات مغربية متخصصة في التضامن مع الشعب الفلسطيني.
 
الجدير بالذكر أن المساهمة المغربية التي لم تنقطع أبدا ليست ذات طابع رسمي فقط، ولكن شاركت فيها العديد من المؤسسات والفعاليات الاقتصادية والتجارية، ونظيرتها من المجتمع المدني، ناهيك عن تبرعات المواطنين العاديين من خلال حملات يومية مسترسلة داخل كبريات المجمعات التجارية : الأمر الذي جعل الوكالة تحظى بعناية ملكية خاصة تجلت واضحة سنة 2023 في رسالة ملكية سامية وجهت إليها أشادت بدورها الرائد في "دعم الرصيد الاجتماعي والفكري والديني للقدس الشريف وحماية ذاكرتها الثقافية والمعمارية التليدة. (2)
 
إن مجموعة التفكير والتحليل الدبلوماسي التي تدرك جيدا أن وكالة بيت مال القدس الشريف منظمة دولية حسب قواعد القانون الدولى، وأخذا بعين الاعتبار طبيعة الأدوار الإنسانية النبيلة التي تتولاها وما تؤمنه تلك الأدوار للمغرب من حضور فاعل وفعال في المدينة المقدسة، وفي القضية الفلسطينية والنزاع في الشرق الأوسط بصفة عامة تؤكد على ضرورة مواصلة دعمها ماديا ودبلوماسيا وإعلاميا وتكثيف التعريف بشكل متواصل داخليا وخارجيا بجهودها للمساعدة في البحث عن مصادر تمويل إضافية لها.
 
هوامش:
1.جلالة الملك الحسن الثاني في تقديمه لوثيقة القدس 
2. جلالة الملك محمد السادس في رسالة للوكالة بتاريخ 26 يونيو 2023