ساد في أوساط مجتمعنا الإسلامي المعاصر نمط من التدين الشكلي الذي يرتكز على المظاهر والطقوس الخارجية للدين، دون النفاذ إلى أبعادها الغائية ومضامينها القيمية، التي هي الأساس والجوهر في كل الممارسة الدينية، مثل الأخلاق والصدق والأمانة والعدل، وغيرها من القيم الإسلامية والإنسانية الأصيلة. وهكذا فقد أصبحت هذه الأشكال المظهرية عبارة عن طقوس اجتماعية جافة لا أثر لها في واقع الناس ولا في سلوكهم اليومي، وهو ما يتنافى مع حقيقة الدين القائمة على تحقيق مقاصده في الخلق.
إن هذا النمط من التدين بقدر ما يعكس حالة من اللامعنى، ومن الفراغ الروحي الذي أصبح يعيشه الإنسان المسلم، بقدر ما يساهم في تقديم تصور غير سليم عن الدين، الأمر الذي يستغله الكثير من المتربصين لتشويه صورة الإسلام والطعن في أحكامه وقيمه، وفي مدى صلاحيته لتأطير الحياة الفردية والاجتماعية.
ولعل من أهم العوامل التي ساهمت في انتشار هذا النمط من التدين السطحي، الجهل بالتدين الصحيح؛ إذ الكثير من الناس يختزلون الدين كله في هذه المظاهر الشكلية دون الالتفات إلى ما وراءها من الحكم والمعاني والأسرار الدقيقة التي هي المقصودة بالأصالة في كل حكم تشريعي. ومنها أيضا هيمنة المعايير الاجتماعية التي تسربت إلى المنظومة الدينية، فصبغت التدين بصبغتها، وطوعت المخيال الديني لصالحها، وهكذا أصبحنا نلاحظ غلبة السلطان الاجتماعي على السلطان الديني. فضلا عن تأثير الخطاب الدعوي المعاصر، الذي ساهم بشكل كبير في بناء مفهوم للتدين، يرتكز على الجوانب المظهرية، كتقصير الثوب وإطلاق اللحية وحضور الصلوات في المساجد، وغير ذلك من الأشكال المظهرية الأخرى، دون الغوص في الدلالات العميقة لهذه المظاهر، والوقوف على أبعادها الرمزية التي تمنحها الحياة وتجعلها ذات معنى، وذات فاعلية وتأثير في الوجود الإنساني.
تأسيسا على ما سبق سنعمل على رصد بعض ملامح التدين المظهري من خلال القضايا الدينية التالية:
أولا: البعد المظهري في ذبح أضحية العيد
تعتبر أضحية العيد شعيرة من شعائر الإسلام التي جعل الله عز وجل تعظيمها علامة على الإيمان والتقوى، وهي من أعظم العبادات التي يتقرب بها الإنسان المؤمن إلى الله تعالى، إحياء لسنة أبينا إبراهيم عليه السلام واستلهاما لدلالتها التاريخية والحضارية والفلسفية.
وإذا كانت أضحية العيد كغيرها من العبادات والشعائر الإسلامية قد شرعت لتحقيق مقاصد تعبدية وأهداف تربوية نبيلة، تتجاوز جانبها المادي، فإن واقع المسلمين اليوم أصبح ينم عن انحراف خطير عن تلكم الأهداف والغايات الشرعية، بحيث أصبحت هذه الشعيرة جزءا من الممارسة الاجتماعية التي غالبا ما يطغى عليها جانب التفاخر وإظهار المنزلة الاجتماعية، وبالتالي فقد أصبحنا نرى بعض الناس يتنافسون في شراء أضحية العيد واختيار أفضلها وأجودها، ليس بدافع التقرب إلى الله، وإنما لمجرد التباهي ولفت أنظار الجيران والمقربين من أفراد العائلة. كما نجد الكثير من الناس يضطرون تحت ضغط المجتمع إلى اقتراض المال والتكلف فوق الطاقة لشراء الأضحية، مع أن الشرع الحنيف قد أسقط هذه الشعيرة على المعسر الذي لا يقدر عليها. والأدهى من ذلك أننا نجد بعض من لا صلة له بالتدين، ولا يجمعه بالإسلام إلا النطق بالشهادتين، يحرص غاية الحرص على ذبح أضحية العيد كل سنة، وكأن هذه الشعيرة هي الركن الركين الذي لا يصح إسلام بدونه.
ومما يؤكد هذا الانحراف أيضا فيما يتعلق بأضحية العيد، ما لاحظناه قبيل عيد الأضحى الأخير من تهافت على شراء اللحوم والمسارعة إلى الذبح قبل العيد، وخارج الإطار العلني المعتاد، رغم الرسالة الملكية التي أكد من خلالها جلالة الملك حفظه الله، على عدم إقامة هذه الشعيرة، نظرا لوضعية القطيع، وقلة رؤوس المواشي، بالإضافة إلى توفر الدواعي والمبررات الشرعية التي تؤيد هذا القرار.
وهذا في نظري يدل بشكل صريح على أن هذه الشعيرة تجاوزت في واقع المسلمين اليوم بعدها الديني، إلى أبعاد أخرى اجتماعية ونفسية وثقافية، بحيث أصبحت جزءا لا يتجزأ من العادات والطقوس الاجتماعية الراسخة في الكيان المجتمعي، والتي يصعب التخلي عنها بحكم العادة والإلف، لا بدافع الالتزام الديني والحرص على تطبيق أحكام الشريعة.
ثانيا: البعد المظهري في أداء فريضة الحج
تعد فريضة الحج من أركان الإسلام الخمسة، وقد أوجب الله عز وجل على المؤمن أداء هذه الفريضة مرة واحدة في العمر وفق شروط أهمها القدرة المالية والبدنية. وهي كغيرها من العبادات لها مقاصد وغايات متعددة عبر القرآن عنها بالمنافع، في قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم). [الحج: 28]. ومنافع الحج لا تكاد تعد ولا تحصى، غير أن الواقع اليوم ينبئ عن خلل كبير في تصور الناس لهذه الشعيرة، إذ الغالبية العظمى من المسلمين وإن كانوا يؤدونها ويستوفون أركانها من حيث صورتها الخارجية، إلا أن مضامينها القيمية ومقاصدها الشرعية شبه غائبة، سواء من جهة تصورها والحرص على تحصيلها أثناء الفعل التعبدي، أو من جهة تحققها واقعا ملموسا بعد حصول الفعل التعبدي. ويعتبر تعزيز الجانب الخلقي والقيمي لدى الإنسان المسلم من أبرز المقاصد التي رام الشرع الحنيف تحقيقها من خلال تشريع فريضة الحج، كما يدل على ذلك قوله تعالى: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) [البقرة: 197] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه). [صحيح البخاري].
غير أن كثيرا من المسلمين مع الأسف الذين يحجون بيت الله الحرام، لا يستحضرون هذا البعد القيمي أثناء أدائهم لهذه الفريضة، سواء في علاقتهم مع غيرهم، حيث يكثر السباب والصراخ غير المبرر، كما تستبد الأنانية بكثير منهم، دون مراعاة للضعفاء والمرضى أثناء أداء المناسك، فضلا عن مظاهر الاختلاط بين الرجال والنساء، في مشهد ينم عن سوء التنظيم والفوضى التي نعيشها في حياتنا اليومية، أو حتى في تعاملهم مع الفضاء الذي هو بلا شك فضاء مقدس ينبغي لكل مؤمن أن يحافظ على قداسته وروحانيته، ولعل من أبرز مظاهر سوء التعامل مع الفضاء عدم المحافظة على نظافته وإغراقه بأكوام من النفايات ومخلفات الطعام، وكلها مشاهد تنبئ عن خلل في المنظومة القيمية وغياب للسلوك المدني والوعي الحضاري اللازم الذي يجب أن يتجسد في سلوك كل مسلم، لاسيما وأن الدين الإسلامي هو دين يحث على النظافة، بل ويعتبرها جزءا من الممارسة الدينية وشرطا أساسيا لأداء الفرائض وإقامة الشعائر.
ومن مظاهر الطقوسية الجافة في أداء هذه الفريضة أيضا، الاحتيال على الجهات المكلفة بتنظيم شؤون الحج، والدخول إلى تلك الأماكن المقدسة دون تصريح أو دون المرور عبر الإجراءات الإدارية والقانونية التي أصبحت اليوم ليست ضرورية فحسب، بل تعد من الواجبات الشرعية التي يجب الالتزام بها، في ظل الإقبال المتزايد على أداء هذه الفريضة، وبالنظر إلى محدودية الطاقة الاستيعابية للمكان الذي يقتضي تدبير حكيما وتنسيقا كاملا مع مختلف الدول الإسلامية، لتفادي الازدحام الذي غالبا ما يتسبب في إزهاق الكثير من الأرواح. ولا شك أن اللجوء إلى طرق غير شرعية من أجل أداء هذه الشعيرة يؤدي إلى تقويض كل الجهود الرامية إلى تحقيق تدبير أمثل لكل ما يتعلق بأداء هذه الشعيرة حتى يتسنى للجميع أداؤها في جو من السكينة والروحانية، ودون الوقوع في العنت والمشقة المرفوعة شرعا.
ثالثا: البعد المظهري في صيام شهر رمضان
يعد صيام شهر رمضان من أركان الإسلام الخمسة، التي تشكل أساس البناء الإسلامي كله، وقد شرع الله عز وجل الصيام كغيره من العبادات الأخرى، لتحقيق مقاصد وغايات متعددة، غير أن ما نراه اليوم في واقعنا يعكس حالة من الانحراف الخطير عما ينبغي أن يكون عليه المسلم، وهو متلبس بهذه الفريضة.
ومن جملة ما ينبغي أن يلتزم به المؤمن أثناء أدائه لفريضة الصيام، أن يكون على قدر كبير من الأخلاق الرفيعة والمعاملة الحسنة مع كل الناس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم) [صحيح البخاري].
والحال أننا نجد الكثير من الناس مع الأسف كلما دخل رمضان أصبحوا أكثر عدوانية وخروجا عن اللياقة، وأكثر ممارسة للعنف بنوعيه المادي والرمزي. فضلا عن الكثير من الممارسات التي تناقض الصيام وتنقضه في الوقت نفسه، مثل الغش في المعاملة، وأكل أموال الناس بالباطل، وتزوير الحقائق، وممارسة الكذب، والتعاطي للغيبة والنميمة، وغير ذلك من الاختلالات السلوكية الأخرى. وكأن الصيام يشمل الإمساك عن شهوتي البطن والفرج فقط، كما هو مقرر في المنظور الفقهي، أما ما سوى ذلك فلا يندرج ضمن مشمولات الصيام الشرعي، وهذا خطأ في الفهم ينبغي تصحيحه، لأن الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، إذا كان يضمن صحة العبادة من حيث صورتها وشكلها الخارجي، فإنه لا يضمن القبول.
وهكذا نلاحظ أنه بدل أن يكون رمضان مناسبة وظرفا زمنيا لتدريب النفس على التحلي بالأخلاق الفاضلة وبذل المعروف وقول الكلمة الطيبة، والتعامل بالحسنى مع خلق الله، ليكون الظاهر منسجما مع الباطن، يصبح مناسبة لانتهاك كل الحرمات وارتكاب كل المخالفات الشرعية. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن شعيرة الصيام قد فقدت بدورها كل مقومات وجودها الرمزي والروحي، وأصحبت على غرار كل الشعائر الأخرى ممارسة جافة لا أثر لها في سلوك الناس ولا في واقعهم الاجتماعي.
رابعا: البعد المظهري في أداء فريضة الصلاة
لا شك أن الصلاة هي عماد الدين وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام الخمسة بعد الشهادتين. وتكتسي الصلاة أهمية كبرى في حياة المسلم بالنظر إلى أنها تؤدى خمس مرات في اليوم. وقد شرعت كغيرها من العبادات لتحقيق مقاصد تعبدية وغايات تربوية مهمة.
ومن الوظائف التربوية للصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، لقوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) [العنكبوت: 45]. غير أن الواقع المشاهد يدل على أن الصلاة هي بدورها لم تسلم من التحريف المضموني والقيمي الذي أصاب جوهرها بالعطب، مما عطل وظيفتها الحضارية في حياة المسلمين، بحيث أصحبت عبارة عن ممارسة طقوسية جافة تؤدى بطريقة ميكانيكية خالية من المعنى الذي يمنحها الحياة، ويجعلها فاعلة ومتجسدة في السلوك اليومي للفرد المسلم؛ إذ لا معنى للصلاة ما لم تنه صاحبها عن الفحشاء والمنكر، وإن من أعظم المنكرات، الغش في المعاملة، وتطفيف المكيال، وإغماط الناس حقوقهم، وتزوير الحقائق، والمتاجرة في المحرمات. وما أكثر من يصلي في الصفوف الأمامية مع المسلمين، فإذا خرج إلى المجتمع، مارس مختلف أنواع المنكرات وانتهك جميع الحرمات، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل أن الصلاة أصبحت كغيرها من العبادات والشعائر الدينية جسدا بلا روح ومظهرا بلا معنى.
في الختام أقول: إن التدين الصحيح هو الذي يقوم على عنصرين متلازمين أحدهما هو الشكل المادي الفيزيائي أو المظهر الخارجي للفعل التعبدي، ووظيفة هذا الشكل تكمن في كونه شعارا يميز المسلم عن غيره، والثاني هو المضمون القيمي الذي هو جوهر كل فعل تعبدي وثمرته ومقصده الغائي. وأي خروج عن هذه الثنائية الجدلية ينتج عنه انحراف عن التدين الصحيح وتحريف له في الآن نفسه.