كل المؤشرات تؤكد ان رقم معاملات المقاولات الوطنية قد بدأت في الارتفاع واحدًا ومثنى وثلاث ورباع، في نفس الوقت الذي أصبحت الأنظار تتجه أيضًا نحو الممارسة الاجتماعية والبيئية للمقاولة .فهي
لم تعد مجرّد وحدة لإنتاج السلع وتراكم الأرباح وركوب المخاطر، بل تحوّلت تدريجيًا إلى فاعل محوري في إنتاج القيمة وإعادة توزيعها داخل المجتمع. إنها اليوم نقطة تقاطع بين الاقتصاد والمجتمع، تساهم في تشكيل أنماط العيش، وضمان التوازنات الاجتماعية، والحفاظ على استدامة الموارد.
صحيح أن المقاولة لعبت، منذ نشأة الاقتصاد الحديث، أدوارًا حاسمة في الابتكار والتنمية، لكن المرحلة الراهنة تفرض عليها أدوارًا جديدة تتجاوز منطق الربح والخسارة، لتشمل المسؤولية، والعدالة، واحترام الكرامة الإنسانية. فنجاح المقاولة لم يعد يُقاس فقط بما تحققه من أرباح، بل أيضًا بالأثر الاجتماعي الذي تتركه، وما تضمنه من حق في العمل، والمساواة، والتنمية العادلة بين الأجيال.
“لا يمكن أن تكون الشركات عظيمة في السوق، إذا لم تكن عادلة في المجتمع”
– جون روجرز،
من المسؤولية الاجتماعية… إلى حقوق الإنسان
غالبًا ما يتم الخلط بين المسؤولية الاجتماعية للمقاولة RSE ومفهوم المقاولة وحقوق الإنسان، BHR مع أن هذا الأخير أكثر شمولًا وعمقًا. فالمسؤولية الاجتماعية، كما تم التعارف عليها، تقوم أساسًا على مبادرات طوعية لتحسين صورة المقاولة لدى الرأي العام، غالبًا عبر دعم أنشطة خيرية أو بيئية، دون التزامات قانونية واضحة.
أما مفهوم “المقاولة وحقوق الإنسان”، الذي أقرّت مبادئه التوجيهية الأمم المتحدة سنة 2011، فهو إطار قانوني وأخلاقي يُحمّل المقاولة مسؤوليات دقيقة في احترام حقوق الإنسان، سواء داخل وحداتها الإنتاجية، أو عبر سلاسل التوريد، أو في علاقاتها بالبيئة والمجتمعات المحلية.حيث يرتكز هذا الإطار على ثلاث دعائم رئيسية:
1. التزام الدولة بالحماية من الانتهاكات؛
2. مسؤولية المقاولة في الاحترام والوقاية؛
3. حق المتضررين في الإنصاف وجبر الضرر.
إن توضيح هذا المفهوم، وتبسيطه، مع إدماجه في السياسات العمومية، وفي تكوين الفاعلين الاقتصاديين والقانونيين، يشكل ركيزة لأي نموذج تنموي قادر على الربط بين القوة الاقتصادية واحترام الكرامة الإنسانية.
أين نحن؟
أمام هذا التوجه الحقوقي العالمي، يصبح وطنيا ، احترام مدونة الشغل، بما تتضمنه من مقتضيات، حدًا أدنى وليس هدفًا بعيد المنال. خاصة وان جزء من نسيجنا المقاولاتي لا زال بعيدًا عن هذا الحد الأدنى، فالاجير لازال مجرّد رقم، والقانون عبئًا، والنقابة خطرًا يجب تجنّبه. ليفتح المجال احيانا لممارسات لم تعد مقبولة مثل محاربة العمل النقابي، وعدم التصريح بالأجراء، والطرد التعسفي، وانعدام شروط السلامة المهنية، منتشرة في عدد من المقاولات، بما في ذلك تلك التي تستفيد من الصفقات العمومية ومن مشاريع 2030. وهو ما يطرح سؤالًا كبيرًا حول آليات المراقبة، وإمكانية ربط الاستفادة من المال العام، على الأقل، باحترام صارم للحقوق الأساسية داخل المقاولة.
لكن التحدي اليوم لا يكمن فقط في التشخيص، بل في ابتكار آليات فعّالة للمواكبة والدعم. فالمقاولة لا يمكن أن تنخرط في هذا التحول الحقوقي والتنظيمي من تلقاء نفسها، بل تحتاج إلى تأطير مؤسسي، وتوجيه استراتيجي واضح، يساعدها على فهم التزاماتها، وتأهيل بنياتها، وتكوين مواردها البشرية.
بهذا المعنى، يجب أن تُنظر إلى المعايير الحقوقية لا كقيود، بل كرافعة لتحسين الإنتاجية، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي داخل فضاء العمل، ورفع جاذبية المغرب كوجهة استثمارية عالمية، في أفق 2030 وما بعده.
وهذه المسؤولية لا تقع على عاتق الدولة وحدها، بل تشمل أيضًا المنظمات المهنية التي تمثل وتؤطر النسيج المقاولاتي، وعلى رأسها الاتحاد العام لمقاولات المغرب (CGEM)، إلى جانب غرف التجارة والصناعة، والفيدراليات القطاعية.
فالمطلوب من هذه الهيئات أن تجعل من احترام حقوق الإنسان داخل المقاولة محورًا أساسيًا في اشتغالها، ليس فقط في الخطاب، بل أيضًا في برامج التكوين، والتحفيز، والمواكبة، والمساءلة الذاتية. فكما تحتاج المقاولة إلى تحفيز ضريبي ودعم مالي، فهي تحتاج أيضًا إلى بوصلة قيمية وتنظيمية تضمن انسجام أدائها الاقتصادي مع التزاماتها الاجتماعية.
لا شك أن المغرب المقبل بقوة وارادة وعزيمة على لحظة استثنائية بحجم كأس العالم 2030، يقدر حجم التحديات ليبقى رفع سرعة التحولات داخل النسيج المقاولاتي، مع الجرأة في ربط الامتيازات بالواجبات، والربح بالمسؤولية. مسار لا مفر منه
فالاقتصاد التنافسي لا يبنىى بأدوات تقليدية، بل بمنظومة مقاولاتية تكرم الرأسمال البشري ، وتحترم حقوق المستهلك، ومتطلبات البيئة.
لهذا، فإن الفرصة لا تزال قائمة. فالمقاولة المغربية، بما تملكه من طاقات وكفاءات وتجربة، قادرة على أن تتحول إلى فاعل تنموي وحقوقي رائد، إذا ما توفرت لها المواكبة، والقيادة، والجرأة التي تحررها من منطق الريع والمحاباة.
لأن العالم، حين سيتجه إلى ملاعبنا وفنادقنا في 2030، سيلتفت أيضًا إلى مؤسساتنا ومقاولاتنا… وإلى مدى احترامها لكرامة الإنسان.