ليس كلّ سخطٍ علامةً على وعي، ولكنّ السخط حين يتكرّر ويتكاثف، يكون أثرًا لبنيةٍ معطوبةٍ في تنظيم المعنى داخل المجتمع. فليس الإحساسُ بالظلم هو ما يولّد الغضب، بل الإحساس بأنّ العدلَ نفسه لم يعُد ممكنًا، أو لم يعُد مُتاحًا للجميع. لسنا بإزاء تفاوتٍ فقط، بل نحنُ أمام تآكلٍ في الإحساس بالمشروعية: حين يشعر الناس بأنّ القانون لا يسري على الجميع، وأنّ الفضاء العمومي ليس ملكًا مشتركًا، بل ساحةً يحتكرها من يملكون، فإنّ معنى الانتماء نفسه يتصدّع. إنّنا هنا إزاء ما يسمّيه جون رولز "تآكلَ مبدأ العدالة الإجرائية"، حين لا تعود القواعدُ نفسها تنطبق على الجميع، فينهار الإحساس الجماعي بالإنصاف. وهذه التفرقة بين "العدالة" و"اللامساواة" هي ما شدّد عليه لاحقًا مايكل ساندل، حين رأى أن الشعور بالسّخط الاجتماعي لا ينبع من مجرّد التفاوتات، بل من الإحساس بانعدام الجدارة وانسحاب القيمة الأخلاقية من النظام العام.
في هذا الأفق، لا تظهر حادثة الطفلة غيثة بوصفها مجرّد مأساةٍ فرديّة، بل بوصفها نافذةً دالّة نطلّ منها على العلاقة المعقّدة بين الإحساس بالعدالة، وتنظيم الفضاء العمومي، واستعراض الامتياز. ومن هنا ينبغي أن تبدأ القراءة: أن نأخذ هذا الحدث المفجع، لا باعتباره حادثاً استثنائياً، بل باعتباره تكثيفًا رمزيًا لمسارٍ يوميٍّ يتكرّر على مستويات مختلفة، وأحيانًا بضحايا غير مرئيّين.
في التصوّر الليبرالي الكلاسيكي، يُفترض أنّ التفاوتَ مشروعٌ في المجال الخاص، حيث يمكن للفرد أن يكدّ ويكدّس، أن يربح أو يخسر، أن يملك أكثر أو أقلّ. لكنّ الفضاء العمومي شيء آخر: هو المكان الذي يجب أن نتساوى فيه رمزيًا، بوصفنا مواطنين لا أفرادًا. ولأنّ هذا التساوي مستحيل فعليًا حتّى على مستوى الخدمات العمومية، فينبغي، على الأقلّ، الاحتفاظ بالفضاء العموميّ منطقةً وسطى، يتداخل فيها الجميع، وينتفي فيها أيّ تفاوتٍ بين الأفراد. إنّ الفضاء العام، بهذا المعنى، لا يحتمل "الاستعراض"، لأنه لحظةٌ تجريدية: يخلع فيها الناس ألقابهم وممتلكاتهم، ليظهروا كأندادٍ. وهذه الفكرة هي صلبُ العقد الاجتماعي منذ جان جاك روسو: لا يكون المواطن مواطناً إلّا بقدر ما يندمج في الإرادة العامة، لا باعتباره غنيًّا أو فقيرًا، بل إنسانًا يملك حقّ المشاركة على قدم المساواة. وفي امتدادٍ لهذا التصوّر، ترى تيارات الديمقراطية الراديكالية أن الفضاء العمومي ينبغي أن يُصمَّم بحيث يكون "أملسَ"، بلا تدرّجات ولا مفارق طبقية، لأن أيّ تجزيء له يدمّر المعنى الديمقراطي للمواطنة المشتركة.
لكنّ الواقع لا يشبه هذه الفرضية. فالفضاء العامّ -والمغرب لا يشكّل استثناءً- ليس مسطّحًا، بل مفصّلًا على مقاس الامتياز. في الشارع، في المدرسة، في المستشفى، في إدارة المرور، ثمة دائمًا علامات تُظهر من يملك ومن لا يملك، من "يستحق الانتظار" ومن "لا وقت لديه". يتمّ تقسيم الفضاء المشترك إلى مساحات متفاوتة: بوّابة خاصة، أو مقعد محجوز، أو معاملة استثنائية، أو رخصة غير معلنة، أو فقط نظرة ازدراء. إنّ الفضاء العامّ هو المساحة الأمثل التي يتجلّى فيها ما يسمّيه بيير بورديو "العنف الرمزي"، أي تلك الأشكال الخفيّة من التراتب الاجتماعي التي تُمارَس دون عنفٍ مباشر، ولكنّها تغرس الإحساس بالدونية في جسد الأفراد وتصوراتهم. ويشير تشارلز تايلور إلى أنّ المجتمعات الحديثة تنزع إلى "شرعنة" التراتب بين الأفراد، والامتيازات، من خلال رموز صامتة تُعيد إنتاج التفوّق الطبقي، بل تصوغ اللامرئي بوصفه هو القاعدة.
وحادثة غيثة، في جوهرها، تقع هنا: هي ليست فقط قصّة طفلة تُدهس بسيارة رباعية الدفع، بل هي لحظة تكثيف لمسارٍ خفيّ يجري يوميًا في الشارع المغربي، حيث يُعاد رسم الفضاء العام كلّ يوم بخطوطَ طبقية لا تُرى، ولكن يُحَسّ بها في الجسد، في الانتظار، في الصّمت، وفي العجز عن الفعل. لم يكن الدهس هنا ماديًا فقط، بل رمزيًا أيضًا: كان دهسًا للحقّ في الأمان، وللفضاء الذي يجب أن يتّسع للجميع دون تمييز.
لقد حدث أول تمايزٍ في الفضاء العمومي حين تسلّل الامتياز من مجاله الطبيعيّ، المجال الخاص (المنزل، السيارة، اللباس...) إلى قلب المجال المشترك. صار التمييز يُمارَس لا فقط عبر ما نملكه داخل بيوتنا، بل عبر ما يُتاح لنا خارجها: مدرسة لأبناء النخب، مستشفى خاص لمن يدفع، إجراءات مسرَّعة، مكاتب معزولة، أبواب خلفية... هكذا لم يعُد الفضاء العمومي ساحةً للجميع، بل صار هو نفسه مفصّلًا على مقاس الطبقات. ونتيجة هذا الانزياح، غدت المؤسّسات العمومية تتوزّع إلى مراتب، رغم خضوعها للجهة نفسها في التسيير (وربّما حتّى التمويل). مستشفيات تسيّرُها الوزارةُ نفسُها لكنّها تقدّمُ خدمات متباينة كليًا، لأنّ هذا خاصٌّ وذاك "عموميّ". مدرستان تابعتان لنفس الوزارة، لكنّ شروط الولوج، والمراقبة، والمحيط الاجتماعي تختلف جذريًا. كلّ هذا يحدث ضمن ما يُفترض أن يكون "الفضاءَ الجماعيَّ" الذي تضمن الدولة فيه الحدّ الأدنى من العدالة.
بقيت، رغم ذلك، بعض الفضاءات المشتركة التي يُفترض ألاّ يتميّز فيها أحدٌ عن أحدٍ: الشارع، الرصيف، الحديقة العمومية... أماكن يتقاسمها الجميع لا لأنهم متساوون اجتماعيًا، بل لأنهم، ببساطة، مواطنون. لكن حتى هذه الفضاءات لم تنجُ من الانقسام. فهي أيضًا تُرسم فيها خطوط غير مرئية: بين من يستطيع أن يخرِق القانون، ومن هو ملزمٌ بأن ينضبط له؛ بين من تحميه السيارة رباعية الدفع، ومن يعبر الشارع بارتجاف. وفي هذا الانقسام الصامت، تتكرّس اللاعدالة لا كظرفٍ طارئ، بل كنظامٍ مستبطن.
إنّ حادثة غيثة، في هذا السياق، ليست فقط مأساة أسرة، بل هي انعكاس لخلل أعمق: لفضاءٍ عموميٍّ فقدَ مبدئيّته، وأصبح بدوره مجالًا للتفاوت، للفصل، وللهيمنة. صارت الأرصفة مساحاتٍ طبقية، والطرقاتُ رموزًا للسلطة، والحق في الأمان نفسه خاضعًا للتسعير غير المعلن. تحوّل المواطنُ في الفضاء العموميّ من مواطنٍ "نكرة"، إلى "حالة استعراضٍ"؛ وصار الفضاء العموميّ نفسُه حالة لاستعراض الامتيازات من مالٍ ونفوذٍ وسلطة.
في المجتمعات التي تخطّت عتبة الديمقراطية، يغدو المال والسلطة أمرين شديدَي الحساسية، لا لأنهما غير موجودين، بل لأنّ استعراضهما مرفوض اجتماعيًا. فكلّما ترسّخ الوعي بالمساواة القانونية، وكلّما اشتدّ الضغطُ الأخلاقي من الفضاء العمومي، ازداد سلوك الأغنياء والمسؤولين ميلًا إلى "الاختفاء": لا سيارات فارهة تلفت الأنظار، لا مواكب رسمية تقطع الطريق، لا مظاهر بذخ تستفزّ المواطنين. لأنّ التفاخر بالامتياز هو بالضبط ما يُنتج الغضب، ويعيد تفعيل شعور اللاعدالة.
لكن كلما ابتعدنا عن الديمقراطية الحقيقية، انفلت المال من حيّز الحياء، وخرجت السلطة من حيّز التابو. لم يعد المسيِّرُ يحرص على التخفّي، بل على التفاخر؛ ولم يعد من يملك الثروة يخفيها، بل يستعرضها. وصارت اللامساواة لا تكتفي بأن تكون واقعة، بل تصير "مشهَداً": تُبثُّ على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وتُعرض في الفضاء العمومي، وتُفرَض على الوعي الجماعي بوصفها أمرًا طبيعيًا. وهذا ما يجعل من التابوهات الاجتماعية – التي كانت تكبح استعراض الثروة والسلطة – في حكم المكسورة اليوم، في تواطؤ صامت ما بين النخبة ومنظومة الإعلام والتسويق.
في حادثة الطفلة غيثة، لم تكن الفاجعة فقط في الدهس، بل في ما تلا الدهس: في غياب المعطيات، في طريقة التناول، في الإشارات المتناثرة (بغض النّظر عن صدقِها) إلى نوع السيارة، وهويّة السائق، ووتيرة تعامل السلطات. بدا كأننا لا نعيش الحدث نفسه، بل نعيشه من داخل طبقات زمنية مختلفة: زمن الطفلة البطيء، المحزون، وزمنٍ آخر سريع، نافذ، يمضي كأن شيئًا لم يكن. ولهذا تجلّى السّخط على وسائل التواصل الاجتماعي مفاجئًا في حجمه، وعميقًا في دلالته: ليس الغضبُ من الحادث، ذاك أنّ حوادث السّير تقع كلّ يومٍ، وبلدنُا يحطّم الأرقام القياسية في عددِها، لكن الغضب من ملابسات الحادث، من استعراض النّفوذ، ومن العجز إزاءَه.
ليست حادثة غيثة مجرّد مأساة معزولة، بل هي مرآة لعطبٍ أعمق في بنية الفضاء العمومي. لقد صار السخط الاجتماعي لا ينبع فقط من الفقر أو من الفوارق الطبقية، بل من الإحساس الحاد بأنّ العدالة قد انسحبت من المشهد، وأنّ قواعد اللعبة تغيّرت دون أن يُخبرنا أحد. فحين يشعر المواطن أنّ ثمة قانونَين، وفضاءَين، وزمنَين، فإنّ ما ينهار ليس فقط الثقة، بل العقد الاجتماعي نفسه.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط محاسبة في حادثة مفجعة، بل مراجعة جذرية لمنطق التدبير العام، ومساءلة صارمة لطبيعة الامتياز الذي يَعبُرُ الفضاء العموميّ دون مساءلة، وللتمايزات التي تُعيد إنتاج الفجوة بين الناس، لا بوصفها ضرورة اجتماعية، بل بوصفها قدرًا يُفرض على البعض، ويُستثنى منه البعض.
إنّ أبسط دروس الديمقراطية تبدأ من هنا: أن يشعر الناس أنّ ما يُؤلمهم يُسمع، وما يُدهَسُهم لا يواصل طريقَه في صمتٍ، وأنّ الفضاء العمومي ليس مِلكًا لأحد، ولا ساحةً للاستعراض، بل هو مجالٌ مشتركٌ، إمّا أن نملَأه بعدالةٍ متكافئة، أو يملأُنا بالمرارة.