عبد الجليل لعميري: بين الشاعر والقبيلة.. لتكن الصعلكة شعرية!

عبد الجليل لعميري: بين الشاعر والقبيلة.. لتكن الصعلكة شعرية! الناقد عبد الجليل لعميري
تقول الكاتبة المصرية رشا عدلي :"لا أرى في الكتابة الإبداعية ترفا ولا عزاء،بل ضرورة ".
والشاعر  المحجوب حدان يكتب الضرورة ساخرا من الترف والعزاء. فالضرورة عنده تتجاوز الشخصي إلى العام، رغم أن الذات في المحصلة هي ركيزة بناء النص ونسجه وبوثقة التفاعلات بين اللغة والواقع. وهذا واضح في قصيدته التي مطلعها: "لن أحفل بك/يا أفخاذا من قبيلة التشردم" المنشورة على صفحته بالفيس بوك خلال شهر يونيو 2025.
من بداية القصيدة تبزغ الذات عبر ضمير المتكلم: "لن أحفل"، معبرة عن بوحها الممزوج بغضب تجسده ألفاظ تنتمي لمعجم العنف/الفضح: التشردم، الأنس بالجردان، تقديم لحم الهررة، قتل الفراشات والذباب....
فما دوافع هذا العنف؟ ولماذا ينحاز الشاعر للجردان العفنة على حساب القطط الصغيرة الجميلة؟ ولماذا ينحاز للسرعفون على حساب الفراشات؟ ولماذا يصرخ في وجه اليعسوب/الزعيم مستنكرا:  وأنت؟عم تبحث؟
لقد وظف الشاعر "ولد حدان" مجموعة من الحشرات والحيوانات في هذه القصيدة وهي: الجردان، الهررة، السرعوف، للفراشات، الذباب واليعسوب. هذه الكائنات حبلى بالدلالات المتشابكة التي تجعل المعنى يعلق بشباكها، ويصعب تخليصه منها، ومع ذلك نسعى إلى تحرير هذا المعنى من شباك لغة النص لتفسير التجاور بين هذه الرموز وكثافتها في نص شعري قصير و مكتنز بالدلالات. 
فأول ما تفتتح به القصيدة انفصال الذات عن المجتمع (المتكلم/القبيلة): "لن أحفل بك يا أفخاذا من قبيلة التشردم". ويتم وصف القبيلة بالتشردم وفقدانها للرفاه (غلي القهوة وعصيدة ناضجة).
هذا الإنفصال ينتج موقفا آخر مفارقا: الانزواء (قطع الصلة بالجماعة/القبيلة)، وإعلان الإهتمام الساخر بجيزان عجيبين: الجردان، مستعملا لفظة "أبهأ" الدالة على الأنس ومحبة الاقتراب أو المعاشرة. فتصبح الجردان رفيقة الذات ونديمتها فتستحق الإكرام وحسن الضيافة: وليمة من لحم القطط الشيرازية. ومن معاني القطط الخداع كدلالة سلبية، إلا أنها لا تخلو من معان إيجابية: الطهارة، الخصوبة والأمومة وهي معان مفقودة في واقع الشاعر وقبيلته.
وإمعانا في حسن الضيافة ينادم الشاعر الجردان ويسقيها نبيد "بولعوان" الشعبي نكاية في أرستقراطية "مون فيس" وطبقته.
ثم تتحول الذات إلى سرعوف، حارس الحقول المعبر عن طاقة روحية كبيرة تحتاجها الذات لمواجهة "أفخاذ القبيلة المتشردمة". ينظف السرعوف المكان من الفراشات الشاردة - رمز الأحلام الوردية الهشة - ومن الذباب الجائع رمز الضعف والعفن. 
فلماذا المساواة بين الفراشات والذباب؟
لعل الفراشات الدالة على التجدد والحظ السعيد ليست معنية وإنما المعنية هي الفراشات الشاردة التي أخطأت مسارها أما الذباب فهو معبر عن زوال الحياة في إشارة إلى بؤس العلاقات السائدة بين "أفخاذ القبيلة"!
ويظل اليعسوب دالا على الشجاعة والقوة، ويرمز للقيادة والرآسة محط استنكار: "وأنت؟ عم تبحث أيها اليعسوب المتعدد الأوجه؟".
فتعدد الأوجه دال على النفاق والمراوغة وانعدام الصدق - في مشهدنا السياسي العام - وهو يعسوب مرتعش تلفه الرعشات من كل جانب دلالة على التخبط وعدم الاستقرار. 
وهكذا ينتصر السرعوف - حارس الحقول- على الجميع لأنه يرمز للتنظيف وتطهير الفضاء من الطفيليات.
في سياق آخر تجتمع أفخاذ القبيلة في مناسبات رسمية متعددة بنفس الوجوه والملابس المصطنعة، معبرة عن ملهاة درامية تتكرر منذ عقود/قرون بنفس المضمون مع ممثلين غير بارعين يتجددون حسب العصر!
الشاعر "ولد حدان" يتصعلك على القبيلة وبؤسها بالهروب إلى عالم الحشرات والحيوانات الرمزي تفعيلا لسنة جدنا في الإبداع ابن المقفع في مخاطبة السلطة.
أن الشعر هنا يحقق وجوده عبر ارتباطه بواقعه المأساوي الذي يمنحه مضمونا قويا، ينظمه الشاعر في لغة متمردة عن المألوف، يحاور فيها كائنات ويتفاعل معها وينصهر فيها (سأصير سرعوفا)، لغة تبدو كالمألوف ولكنها تمارس انزياحاتها وغموضها الشعري المتعمد كسهل ممتنع وممتع.
القصيدة عند المحجوب محجوبة المعاني لا تصل إليها إلا إذا مارست تصوف العاشق للجمال في تفاصيله. قصيدة تقول الحلم الملتبس بالواقع بمعجم تخلص من معانيه القاموسية وحلق بعيدا في عوالم اللامعنى/المعنى المتعالي. 
فائدة لغوية: فخذ الرجل: ما بين الركبة والورك. وفخذ القبيلة: إحدى فصائل البطن أو أحيائها.

-ملحق (القصيدة)
لن أحفل بِك
يا أفخاذاً من قبيلة التشرذم
فقهوتك لن تُغل
وعصيدتك،لن يغلظ قوامها
سأنزوي في زاوية
وأبهأ بالجردان
سأطعمها لحم هِرَرة شيرازية
من فصيلة "مون فيس"
وأسقيها نبيذ بولعوان
سأصير سرعوفاً
وبكُلاَّبتي الحادَّتين
سأنقضُ عليكِ
أيتها الفراشات الشارذة
وأعصر أمعاءك
أيها الذباب الجوعان
وأنت؟
عمَّ تبحثُ أيها اليعسوب المتعدد الأوجه
و الرَّعشات الصغيرة المتباينة
تَلُّفك من كل مكان؟