1. مربع السويرتي : منصة ما هي بالمسرح ولا هي بالسينما ولا هي بالعرس، هدايا وأواني ملفوفة في محيط المنصة، راقصة تتلاعب بجسدها غَنَجاً، والكل مشدوه حولها، وقد علت المساحيق وجهها، كنا أطفالا ننط بين الأرجل، حتى لا تضيع منا لحظات التتبع الثمينة، والوجوه تعيش انفصاما بين الجسد الراقص وبين ناعورة الأرقام الدوارة، نحس بنبضات قلوبهم تخفق بقوة وأوراق السويرتي بين أيديهم، كأنهم يحاولون إيقاف دوران الناعورة حين تصل للرقم المطبوع على الأوراق الملونة للسويرتي: فلاحون بعمائمهم، عمال مياومون، لصوص عابرون، نساء بجلاليبهن القروية، مستخدَمون بإدارات القرية.. الكل يختلط عرقه بالكل، بين شد الأعصاب وفرحة ربح سريع وانتكاسة خسارة مدوية، يتبعها تلويح بالأوراق المزركشة في الهواء، بعدها تأتي بطولات الصغار في التقاط الأوراق الملونة وتجميعها في رزم حسب الألوان، والزعيم من يتحصل على أكبر رزمة، والمثير في هذا المربع الغرائبي، أننا لم نصدق وللآن أن هذا الجسد الراقص المتأنق خلف أصباغ التجميل لم يكن إلا رجلا أُريدَ له أن يكون امرأة..
2. مربع حائط الموت : قلعة أسطوانية الشكل من الألواح الخشبية، في قاعدتها السفلية كائن خرافي بدراجة نارية ليس لها شبيه بين الآلات البخارية بعجلتين التي تتنقل في طرقات البلدة. نصعد لأعلى القلعة الخشبية بعد حجز تذاكرنا، ويبدأ بطل الأبطال بالدوران السريع في المحيط الداخلي للقلعة الخشبية، وتحس أن قلبك سيتوقف حين تتوجه الدراجة النارية رأساً صوبك، ولا تعود الحياة إلى قلبك إلا حين تنعرج مبتعدة عن مكانك في قمة الأخشاب، وتزداد نياشين سائق الدراجة وتنهال عليه القطع النقدية حين يدور بِبُرَاقِهِ الآلي دون الإمساك بالمقود. فزع وفرحة وتعجب ورهبة كلها مشاعر تمتزج في دواخلنا ولا نتخلص منها ولو بعد نهاية العرض.
3. مربع الرأس المقطوع : كنا نخشى أن نقترب حتى من باب عرض الرأس المقطوع، رسومات مخيفة على اللوحات الخارجية لامرأة تفقد رأسها ليوضع في صحن، بعيدا عن جسدها، كنت أتردد دائما في الدخول لهذا العرض المخيف، وكنت أتجنب الاقتراب مخافة أن تمد تلك المرأة الجنية يدها لتجذبني إلى هوتها السحيقة. يوم حضرت العرض، طيلة الليل في بيتنا، كلما تنبهت إلى أن رجلَايا أو يدايا خارج الغطاء، أقفز من فراشي فزعا، أغطي كل أطرافي، مخافة أن تمتد يد الجنية لتسحبني لقعرها المظلم.
4. مربع فأر الحظ : جحور خشبية مرقمة، وفأر الكوباي الأبيض، محبوب الجماهير بطل السباق، تختار رقم حظك مسبقا، وما إن تضع مبلغ الرهان حتى يطلق صاحب المربع الفأر: كائن جميل جدا، يتردد في الدخول إلى الجحور المرقمة، ولأول مرة لا أستوعب كيف يمكن للإنسان أن يتكلم مع الحيوان، ويصل حد استجدائه: "صاحبي ادخل لـ 10 ونجيب ليك الفرماج"، وتسمع : "خويا دخل لـ 8"، وكنا نعتقد بعقلنا الصغير أن الفأر قد سمع صراخ الفائز حين يدخل إلى جحر صاحب الرقم الموفق، هوس غرائبي ما بعده هوس.. أخوة الإنسان والحيوان في أبهى صورها.
5. مربع الضاضوس : أغرب الأشخاص وأشدهم قساوة، أثار جروح بليغة على وجوههم، ونظرات خاطفة بينهم وهمهمات بلغات لا نفهمها. لكنهم يفهمون بعضهم جيدا، لوح خشبي بأرقام مكتوبة بطلاسم سحرية ونرد يتراقص وسط علبة معدنية قبل أن يسقط على لوحة الأرقام، وكم كانت تستهويني طقطقة النرد وهو يتدحرج، مُتلاعباً بجَنباتِ العلبة المعدنية وبقلوب المراهنين، غالبا ما ينتهي الرهان بعراك عنيف جدا تنقلب معه لوحة الرهان وسط اتهامات متبادلة بتوجيه النرد أو حرف مساره.
6. مربعات أخرى مترامية هنا وهناك، من الإناء العريض المائي ذي الأقراص الخشبية المرقمة والحمراء غالبا، حيث نلقي بقطعنا النقدية، عساها تستقر فوق إحدى الأقراص العائمة الحاملة لمبلغ نقدي، غالبا ما لا يُعوَّض حجم خسارتنا من القطع الملقاة في قعر الصحن المائي رغم بعض الربح الطفيف. إلى الجُمَيْعَات التي تجدها تَقْتَعِدُ الأرض هنا وهناك، تقامر بلعبة الأوراق "الكارطا البلدية"، حيث تَعَلَّمْنَا سِحر إخفاء الورق وخفة اليد وتنويم الخصم والإيهام بالربح السريع والتحكم في الاحتمالات، دروس لن تتعلمها حتى عند أعتى مدرسي الرياضيات.
متعة ما بعدها متعة، فزع ما بعده فزع، هوس ما بعده هوس، انتشاء ما بعده انتشاء، احتيال ما بعده احتيال، مهارة ما بعدها مهارة، تلك كانت أفراحنا الطفولية، بين ردهات السويرتي، السيرك القروي، الذي تتجاوز غرائبية عوالمه كل سيركات العالم بما فيها سيرك موسكو..