العمرتي: حماية مكانة وسمعة الجامعة المغربية: مسؤولية جماعية 

العمرتي: حماية مكانة وسمعة الجامعة المغربية: مسؤولية جماعية  محمد العمرتي، أستاذ جامعي
صدمت مثل زملائي الجامعيين المغاربة عموما، وأساتذة كليات الحقوق خصوصا بالفضيحة المدوية التي هزت كلية الحقوق بجامعة ابن زهر بأكادير وصداها وتداعياتها الإعلامية. وغمرني شعور بالحسرة والألم على ما آل إليه حال بعض الكليات من رداءة وابتذال، حتى أضحت فضاء خصبا لتتابع الفضائح واحدة تلو الأخرى، فمن "الجنس مقابل النقط" إلى "المال مقابل الماستر" الى "الدبلومات المزورة" وربما ما خفي أشد وأعظم... وهالني ما ينذر بسقوط هذه الكليات في مستنقع الفساد بشتى مظاهره وأساليبه وأصنافه.
 
مناسبة هذا المقال، والمناسبة شرط، الرجة التي أحدثها اعتقال أحد الأساتذة بكلية الحقوق بأكادير وإحالته على التحقيق القضائي على خلفية شبهة التلاعب والمتاجرة في شواهد الماستر، والإخلال الخطير بالقواعد الأكاديمية والأخلاقية التي تفرض على الأستاذ التحلي بالموضوعية والنزاهة والاستقامة والإنصاف.
 
فهذه "الفضيحة" التي تفجرت في الأيام الأخيرة، والتدابير الاحترازية التي اتخذها القضاء في حق عدد من المشتبه فيهم، معروضة على العدالة للكشف عن ملابساتها والضالعين فيها والتحقق من مدى ثبوت الوقائع الجرمية المتصلة بها وطبيعتها وحجمها وتحديد درجات المسؤولية عن ارتكابها.
 
فمن الذي باع؟ وماذا باع؟ ومن الذي اشترى؟  وبأي مقابل؟ ومن الذي زور؟ أو شارك؟ ومن توسط؟ ومن تواطأ؟ ومن تستر؟ ومن تغاضى؟ ومن قصر أو تهاون أو تملص من القيام بمسؤولياته طبقا للقوانين الجاري بها العمل؟
 
وإيمانا منا بمبدأ قرينة البراءة، وحق الجميع في المحاكمة العادلة، واقتناعا بمبدإ استقلال القضاء واحترام سلطته وقراراته، فإن الشبهات المنسوبة إلى هذا الأستاذ المعتقل حاليا والموضوع رهن التحقيق وشركائه المحتملين رغم خطورتها، وفداحة الضرر المعنوي الذي سيصيب الجامعة المغربية في حال ثبوت الوقائع، التي بررت إجراء التحريات وفتح تحقيق قضائي بشأنها، تفرض علينا النأي بأنفسنا عن التشهير ظلما بهذا أو ذاك، وعدم السقوط في مزالق "مطاردة الساحرات"، أو التسرع في محاكمة الأشخاص قبل أن يدينهم أو يبرئهم القضاء.
 
بيدا أنه لا مناص من الاعتراف بأن ما يتداوله الإعلام تحت مسميات "المافيا الأكاديمية" و"الماستر مقابل المال" و"شبكة تزوير الشهادات"، وما تناقلته الأخبار حول المبالغ المالية الضخمة المودعة في الرصيد البنكي  للمشتبه فيه وزوجته، والثراء الفاحش الذي  يكون قد راكمه في السنوات القليلة الماضية، وهو فيما يبدو موظف سابق، وافد على الجامعة من الجماعات المحلية، ورغم كوننا لا نجادل في حق جميع المواطنين في التحصيل العلمي والترقي الاجتماعي بالطرق الشريفة والنزيهة،  يبعث حقا على الدهشة والحسرة والاستغراب، ويطرح أسئلة مشروعة ومؤرقة حول مصدر هذه الثروة إن وجدت في الواقع، وعلاقتها بوظيفته كأستاذ جامعي؛ وذاك هو اللغز المحير الذي ينتظر الرأي العام بشغف كبير أن يكشفه تحقيق قضائي نزيه ومعمق وشامل.
 
وفي انتظار ما سيسفر عنه التحقيق، تدفعنا الغيرة على الجامعة وحرصنا على حمايتها وصون سمعتها الى التساؤل بحرقة عن الأسباب التي أدت الى ظهور انحرافات سلوكية وانزلاقات أخلاقية شتى في الفضاء الجامعي، والتي أنتجت بيئة مواتية وحاضنة لتفشي بعض الممارسات الدخيلة على الجامعة والغريبة عن التقاليد والأعراف الجامعية العريقة، والتي تفسر تواتر بعض الفضائح التي تشوه سمعة الجامعة وتنسف مصداقية شهاداتها وتسيئ إلى شرف وسمعة جميع أساتذتها الأكفاء والنزهاء.
 
لقد ظلت الجامعة المغربية منذ تأسيسها حصنا منيعا للفكر وتلقي المعرفة والتحصيل العلمي، وفضاء لممارسة الحرية الأكاديمية  والفكر النقدي والتنظير العميق لقضايا الانسان والمجتمع وإنتاج الثقافة بكل تعبيراتها وبناء الوعي، كما ظلت وفية لقيم المساواة و التسامح و الاختلاف والانفتاح ، حريصة على معايير الاستحقاق والكفاءة والنزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص، كما كانت ولازالت منبعا لإنتاج النخب وتكوين الأطر التي تلتحق بدواليب الإدارة العمومية وبمختلف القطاعات العمومية والخصوصية، إذ أنها أنجبت على مر العقود الماضية المهندسين والأساتذة والأطباء والمحامين، والقضاة، وأطر المقاولات والصحافيين  والأدباء والفنانين....
 
لقد كان للجيل الذي أنتمي إليه حظ الدراسة في الجامعة المغربية في مرحلة مجدها وإشعاعها حيث كان من بين أساتذتها قامات فكرية شامخة أبانت عن علو كعبها في تخصصها، ويشهد لها بالباع الطويل في مجالها العلمي وبرصانة معرفتها وغزارة إنتاجها، فضلا عن تحليها بخصال النزاهة والتواضع العلمي والاستقامة والعفاف. فمن منا لا يعرف أعمدة فكرية وجامعية من حجم محمد عزيز الحبابي ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعباس الجيراري ومحمد جسوس والمهدي المنجرة وعبد الكبير الخطيبي وفاطمة المرنيسي وعائشة بلعربي وعزيز بلال وفتح الله والعلو أو محمد بنونة وجلال السعيد وعبد الرحمن القادري ومحمد الإدريسي العلمي المشيشي، وعبد الله ساعف ومن سار في ركبهم من الجيل اللاحق في مختلف التخصصات العلمية. فمن يا ترى  له المصلحة اليوم  في تبديد هذا الإرث الزاخر وهدم وتدمير ما أسسه هؤلاء الرواد، وتبخيس  وتمييع وظائف وأدوار الجامعة المغربية وتشويه سمعتها، وتقويض مكانتها الرمزية، ودفعها إلى حافة الانهيار، وتحويل بعض كلياتها إلى مجرد "دكاكين بئيسة لتلقين المعارف الأولية ولمنح الشهادات" بأساليب بعيدة أحيانا عن الضوابط الأكاديمية والمعايير العلمية.
 
فإذا أخذنا كليات الحقوق نموذجا، في الماضي، وقبل أن تهب رياح ما سمي بالإصلاحات الجامعية المتعاقبة، كان نيل دبلوم الدراسات العليا مثلا يستلزم من الطالب الدراسة والبحث لمدة أقلها أربع أو خمس سنوات تستوجب الحضور المنتظم والمشاركة في جميع المحاضرات المبرمجة وفي جميع المواد، بالإضافة الى إنجاز عروض وتقارير  والمشاركة حسب الإمكان والحاجة في تأطير الأشغال التوجيهية لطلبة الإجازة، وتختتم بالتفرغ لتحضير بحث أكاديمي يناقش أمام لجنة علمية متمكنة ،فضلا عن قضاء الساعات الطويلة وبشكل منتظم في خزانة الكلية لتوسيع المعرفة وصقلها وتعميقها في مجال التخصص.
 
ولا غرابة أن الحصول على هذا الدبلوم بما كان يمتاز به من رصانة وعمق  وجودة في مستوى التكوين، والتمرن على التأطير البيداغوجي وتمرس على البحث العلمي، كان يؤهل الحاصلين عليه للترشح إلى منصب أستاذ مساعد بالجامعة، فتم إلغاءه و استبداله بالماستر في مدة سنتين؛ الأمر الذي فتح الباب مشرعا لتهافت صنف من الجيل الجديد للأساتذة ،وتسابقهم المحموم على إحداث تخصصات بعناوين جذابة ومغرية لاستقطاب حصة من الطلبة وفقا لمعايير تثير أكثر من استفهام، لكن جل هذه المسالك والتكوينات  تفتقر إلى المضامين العلمية والمعرفية الدقيقة، وتفتقد  الى الشرعية العلمية وتعوزها المبررات الموضوعية من زاوية الفائدة والجدوى وأفق البحث العلمي ،كما تعتمد أحيانا في تأطير الطلبة  على "أساتذة عرضيين" من خارج أسوار الجامعة أو تستعين على عجل بزملاء لتدريس مواد لا تندرج في حقل تخصصهم. وقد أدى هذا الوضع غير الطبيعي في السنوات الأخيرة الى لارتفاع العددي المتزايد لحاملي الماسترات والدكتوراه ،حتى أصبحنا لا نميز فيها للأسف بين الغث والسمين، وبين الشهادة المحصل عليها عن جدارة واستحقاق وبمجهود وكفاءة علمية، وتلك التي منحت في ظروف مريبة ومشبوهة للذين يحجزون مقاعدهم مسبقا بطرق ملتوية من ذوي القربى والنافذين والمحظوظين والمتملقين و"الحواريين"  وأصحاب الوساطات والتوصيات ومن دافعي المال وأشياء أخرى وهذه هي الطامة الكبرى.
 
ولعل ما ساهم في تردي حال الجامعة واستفحال ممارسات مشينة فيها تسلل عينة من الأساتذة إليها وتسربهم في غفلة من الجميع إلى عدد من الكليات، فكيف ولج هذا الصنف من الأساتذة للأسف إلى الجامعة؟ ومن أين أتوا؟ وماهي مؤهلاتهم العلمية للتدريس في الجامعة؟ وما هو مسارهم الأكاديمي؟ وكيف استطاعوا فتح ماسترات وتكوينات تحت مسميات براقة؟ وإحداث «مختبرات" لتأطير الدكتوراه والإشراف على "الأطروحات"؟ وهل تم   التحقق من توفر هذا الصنف من الوافدين على الجامعة على معايير الكفاءة العلمية والأهلية البيداغوجية والنضج السلوكي والمناعة الأخلاقية التي تؤهلهم للتدريس في الجامعة؟ وتولي مسؤولية التأطير والإشراف على الطلبة بكل أمانة ونزاهة واقتدار.
 
إن المعضلة في ظني لا تكمن في سلوك فردي شاذ وطائش، أو ممارسة لا أخلاقية معزولة هنا أو هناك، فالجامعة  المغربية لا تعتبر استثناء  في هذا المجال ،ذلك أن كل جامعات العالم وحتى العريقة والشهيرة منها لا تكاد تخلو من انزلاقات فردية يكون دافعها التحرش أو التمييز لسبب من الأسباب  أو المحاباة أو العلاقات المشبوهة  او السرقات والسطو العلمي الفاضح ،لكن هذه الجامعات تتوفر على آليات ناجعة وفعالة للتحصين الذاتي وللوقاية والحماية من حصول هذه الانحرافات أو احتوائها وردعها ومحاسبة مرتكبيها، وعند الاقتضاء عدم إفلات مرتكبيها من العقاب، فضلا عن  ضمان إمكانية لجوء ضحاياها والمتضررين منها  الى سبل التقاضي والانتصاف . وفي رأيي، إن أسباب الخلل الذي يعتري بعض كلياتنا، و التي أفرزت السلوكيات المنحرفة  التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى أسباب ذات طبيعة بنيوية ومركبة ،ولا تخفى عن الجامعيين الذين واكبوا مسار ما يوصف بالإصلاحات الجامعية المتوالية كما يدركها جيدا كل المسؤولين الذين تعاقبوا على تدبير الشأن الجامعي ببلادنا ، إذ تتداخل فيها التحولات المجتمعية والقيمية والبعد السياسي والهاجس الأمني والإكراه  المالي والتدبيري  والتأطير القانوني والإداري واتساع الخريطة الجامعية في جهات المملكة وارتفاع عدد الأساتذة تحت ضغط ضرورات التأطير البيداغوجي، وتأثير كل هذه العوامل  والإكراهات على السياسة العمومية في مجال التعليم العالي ببلادنا.
 
إن الجامعة كانت دائما، ويجب أن تبقى فضاء للفكر الحر ولبناء الوعي الفردي والجماعي، وفتح آفاق البحث العلمي الجاد وتطويره، وليست كما يريد أن يحولها البعض إلى مجرد بنايات ومؤسسات تعليمية لتلقي المعارف الأولية في هذا التخصص أو ذاك، ومنح شهادات مهددة بفقدان قيمتها العلمية وتآكل مصداقيتها بفعل اهتزاز الثقة في شروط ومعايير وظروف الحصول عليها.
 
ولعل الورش الوطني لحماية الجامعة وصيانة مكانتها يستلزم اليوم قبل الغد ترسيخ منظومة قيمية وقانونية كفيلة بحماية الفضاء الجامعي ومكوناته من الانحرافات والممارسات المشينة وتحفظ له حرمته ومكانته الاعتبارية في المجتمع.
 
لذلك، يحذونا الأمل صادقين أن يكشف التحقيق القضائي في واقعة الماستر بكلية الحقوق بأكادير طبيعة وملابسات وامتدادات ما جرى حتى يتحمل كل واحد مسؤوليته فيما حصل، واتخاذ التدابير الحازمة التي من شأنها القطع مع هذه الممارسات واجتثاث أسبابها وضمان عدم تكرارها.