قال عبد السلام بوطيب رئيس مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية، أن نظامي حافظ الأسد وبشار الأسد قد ارتكبا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد الشعب السوري على مدى عقود، بدءًا من مجزرة حماة سنة 1982، وصولًا إلى الحرب المستمرة منذ سنة 2011.
جاء ذلك في حوار أجرته وكالة نورث حول مستقبل العدالة الانتقالية بسوريا مع الخبير الحقوقي بوطيب، الذي كان يتحدث عن العدالة الانتقالية في سوريا وضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
وشدد عبد السلام بوطيب على أن العدالة الانتقالية مسار طويل يتطلب بالضرورة ثقة ونُبل وشجاعة الفرقاء المشتركين فيه. فهذه الثقة ليست فقط ضرورية لبناء التجربة، بل أيضًا لاستمرارها وضمان احترام حقوق الضحايا، بل وحتى حقوق الجلادين، لأن موضوع الجلادين في السياق السوري، كما في كل التجارب المقارنة، معقّد وعميق التحليل.
ما معنى العدالة الانتقالية؟
وهي مجموعةٌ من الآليَّاتِ والإجراءاتِ تهدف الى معالجةِ إرثِ الانتهاكاتِ الجسيمةِ لحقوقِ الإنسان.، وبناء الديمقراطية.
والعدالةُ الانتقاليةُ منهجيَّةٌ تختلفُ عن باقي المناهجِ لكونِها تُعطي الأولويَّةَ للضحايا أفرادًا وجماعاتٍ، عبر البحثِ عن حقيقةِ ما أصابَهُم من انتهاكاتٍ، وإبداعِ سُبُلِ معالجةِ أثرِ ما أصابَهُم على وضعيَّاتِهم الصحيَّةِ والجسديَّةِ والنفسيَّةِ والاجتماعيَّةِ والمِهنيَّةِ، والتأريخِ لها، كما تهتمُّ كذلكَ بالمحيطِ الجغرافيِّ والاقتصاديِّ والاجتماعيِّ والبيئيِّ الذي عاشَ فيه الضحايا، وإبداعِ صِيَغِ جبرِ الضَّررِ الجماعي والمناطقيِّ.
ومن أهمِّ انشغالاتِ العدالةِ الانتقاليةِ البحثُ عن سُبُلِ عدمِ تكرارِ الانتهاكاتِ الجسيمةِ لحقوقِ الإنسان، عبر الإبداعِ القانونيِّ والدستوريِّ والسياسيِّ، كما أن من أهم أهدافها هو البحثُ عن صِيَغِ بناء الديمقراطية، إذْ إنَّ فقهاءَ العدالةِ الانتقاليةِ يُؤكِّدون على أنَّ الضَّمانةَ الأساسيَّةَ لعدمِ عودةِ الانتهاكاتِ الجسيمةِ لحقوقِ الإنسانِ هي قيامُ الديمقراطيَّةِ ونشرُ ثقافتِها.
تعتمدُ العدالةُ الانتقاليةُ على عدَّةِ مبادئَ أساسيَّةٍ، من أهمِّها:
1- الكشفُ عن الحقيقة:
تهدفُ العدالةُ الانتقاليَّةُ، عبر إنشاءِ لِجانِ الحقيقةِ والمصالحةِ، إلى تَقَصِّي حقيقةِ ما جرى خلال الفترةِ المعنيَّةِ بعملِها، لذا فكلُّ التجاربِ الجادَّةِ حَصَرَتْ مُدَّةَ اشتغالِها بشكلٍ دقيقٍ زمنيًّا.
وعلى الرُّغمِ من أنَّ لِجانَ الحقيقةِ لا تُعتَبَرُ نفسَها لجانًا للمؤرِّخين، إلَّا أنَّها جعلتْ من الحقيقةِ أوَّلَ عملٍ لها، وذلك ضمانًا لحقِّ الضحايا والمجتمعِ في معرفةِ الحقيقةِ حول الانتهاكاتِ الماضية، ولتوثيقِ الجرائمِ وجمعِ الشهاداتِ لكشفِ ملابساتِ هذه الانتهاكات.
ومن أهمِّ الأسئلةِ التي على لجانِ الحقيقةِ الإجابةُ عليها خلالَ عملِها هي:
- من أَمَرَ بممارسةِ الانتهاكاتِ الجسيمةِ لحقوقِ الإنسان موضوعِ التحليل؟
- من نَفَّذَ هذه الأوامر؟
- من استفادَ من تنفيذِ هذه الأوامر؟
2- جبر الضرر الفردي والجماعي والمناطقي.
تؤكد منهجية العدالة الانتقالية على ضرورة التمييز بين التعويض وجبر الضرر، فالتعويض يقتصر على الجانب المالي فقط، في حين أن جبر الضرر يتضمن، بالإضافة إلى التعويض المادي، تعويضا نفسيا واجتماعيا وسياسيا، والتعويض عن الفرص الضائعة في كل المجالات، ولا سيما في المجال التعليمي والمهني والسياسي.
كما أن اجتهادات منها، ولا سيما الاجتهاد المغربي، أضافت إبداعا فيما يتعلق بجبر الضرر، اذ اشتغلت الهيئة المغربية على جبر الضرر الجماعي وجبر الضرر المناطقي، أي الاهتمام بجبر ضرر الجماعات، كجماعة عانت من الانتهاكات الجسيمة بشكل مباشر أو غير مباشر، والاهتمام كذلك بالمناطق التي سكنوها خلال فترة هذه الممارسات.
ومن النقاشات التي استأثرت باهتمام الحقوقيين والمتخصصين، اعتبار المجتمع ككل ضحية مباشرة لجرائم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إلا أنه نقاش ما زال مفتوحا.
وفي كل هذا اعتراف رسمي بالمعاناة الضحايا افرادا وجماعات ومناطق، وإعادة الاعتبار لهم جميعا، كما أنه كذلك إقرار بمبدإ الحقيقة.
3- الإصلاح المؤسسي وضمانات عدم التكرار:
من المبادئ الأساسية كذلك للعدالة الانتقالية هو إرساء دعائم عدم تكرار ممارسة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، لذا يجمع فقهاء وخبراء العدالة الانتقالية أن ذلك يمر وبالضرورة، عبر إصلاح المؤسسات التي ساهمت في الانتهاكات (القضاء، الأمن، الجيش، أجهزة المخابرات). ووضع آليات لمنع تكرار الانتهاكات، مثل إصلاح القوانين وتعزيز الشفافية والمساءلة تعزيز ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع من خلال التعليم والتوعية.
4- المساءلة وعدم الإفلات من العقاب:
من الضروري التأكيد على أن العدالة الانتقالية ليست هي العدالة الجنائية كما أنها ليست بديلا عنها، بالرغم من أن المهتمين بالأولى غالبا ما يستبعدون الحديث عن المتابعات الجنائية خلال فترة اشتغال لجان الحقيقة أو بعد انتهاء عملها وإصدار توصياتها، ذلك أن زمن قيام المصالحة زمن هشّ سياسيًا واجتماعيًا، ويهدد بانتكاس التجربة وسطو من ليس في مصلحتهم قيام المصالحة، أو الخائفين منها.
وقد اختلفت التجارب في التعامل مع هذا المبدأ السليم، واختلفت سبل السعي إلى محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة، سواء كانوا منفذين مباشرين، أو من أمروا بها، أو من استفادوا منها، وكل ذلك من أجل ضمان المبدأ السابق الحاث على تحقيق العدالة ومنع تكرار الجرائم.
ومن الضروري استحضار هنا كل التفكير الإنساني حول النسيان الجميل لخدمة البناء الديمقراطي، والعفو الذكي لخدمة الاستقرار السياسي الضروري لزمن المصالحة ونفيذ توصياتها.
5- حفظ الذاكرة وتدابيرها:
اجمعت كل التجارب في مجال العدالة الانتقالية على أهمية حفظ ذاكرة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، من أجل الوعي الجماعي بخطورتها، و حصنا للمستقبل منها، و يتم الوعي بحفظ الذاكرة عبر التعليم بمختلف مستوياته، و عبر انشاء المتاحف، والنصب التذكارية، ويظل الاعلام من أهم الوسائط للوعي بأهمية حفظ الذاكرة و بخطورة عودة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، كما أن استمرا النقاش العام، و تجويده حول الموضوع من شأنه حفظ الذاكرة و الوقاية من التكرار.
6. المصالحة، بناء السلام والتأسيس للديمقراطية:
جُلّ التجارب التي اعتمدت منهجية العدالة الانتقالية، وأهمها في منطقتنا المملكة المغربية، لم تعتمدها فقط لمعالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بل جعلت منها أيضًا مدخلًا نحو البناء الديمقراطي السلس، من خلال نشر ثقافة المصالحة، وثقافة السلم، وحقوق الإنسان، والثقافة الديمقراطية.
ولترسيخ هذا المبدأ الجوهري من مبادئ العدالة الانتقالية، تبرز الحاجة إلى تعزيز الحوار بين مختلف الأطراف لتجاوز الماضي الأليم، ودعم برامج المصالحة الوطنية لضمان السلم الاجتماعي والتعايش، وتشجيع المجتمعات على القطع مع منطق العداء والانتقام، والانخراط في ثقافة التعايش.
كما أنه من الضروري التأكيد، عند الحديث عن هذه التجارب، أن مرور الأزمات خلالها أمر طبيعي، بل مُتوقَّع، لكن لا يجب أن تُهدد هذه الأزمات التجربة في جوهرها. ولعل أهم إجراء لتفادي هذا الخطر هو الإبقاء على النقاش العمومي مفتوحًا حول التجربة، وعدم التسرع في إعلان انتهائها، لأنها، في جوهرها، مسار طويل الأمد، لا يُتوَّج إلا بقيام ديمقراطية حقيقية، وتأسيس آليات مستدامة لصون مكتسباتها، وتحقيق المصالحة العميقة.
وإذا شئنا تلخيص كل ما ورد، قلنا: العدالة الانتقالية ليست مجرد تعويضات، ولا فقط بحثًا عن حقيقة ما جرى من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بل هي عملية شاملة تهدف إلى إرساء الديمقراطية من خلال إشاعة العدالة، وتحقيق الاستقرار، ومنع التكرار، مما يمكّن المجتمعات من تجاوز ماضيها الأليم وبناء مستقبل أكثر عدالة وإنسانية وديمقراطية.
كيف يمكن تطبيق العدالة الانتقالية في الموضوع السوري؟
للإجابة على هذا السؤال، من الضروري أوّلًا تحديد طبيعة الجرائم الحقوقية التي ارتكبها النظام السابق في سوريا، وكذلك طبيعة الفاعلين السياسيين والحقوقيين والمدنيين الجدد، ومدى إيمانهم ورغبتهم في تأسيس تجربة حقيقية للمصالحة على أساس منهجية العدالة الانتقالية؛ أي مصالحة بأفق دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع.
بعد ذلك، يجب تحديد الفترة الزمنية المعنية بالتحليل بدقة، نظريًا العدالة الانتقالية تعني بالفترة التي لا يزال أثرها السياسي والحقوقي والاجتماعي والاقتصادي والنفسي قائمًا بعمق على الوضع الراهن.
لذا، فإن الفترة التي ينبغي أن تكون موضع تحليل في السياق السوري، هي فترة حكم حافظ الأسد وابنه بشار الأسد، وهي فترة تجمع جلّ المنظمات الحقوقية على أنها كانت فترة بشعة من الناحية الحقوقية، والاجتماعية والإنسانية، وأن الانتهاكات خلالها كانت ممنهجة ومستمرة، وتمثل سياسة الدولة .
أنا لست متخصصًا في الشأن السياسي السوري، لكنني من موقع رئاستي لمركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطي والسلم متابع جيد لما جرى ويجري في سوريا، كما في كل منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وأعتمد في ذلك على تقارير المنظمات الدولية، وتقارير المنظمات الوطنية، وآراء الفاعلين السياسيين والحقوقيين محليًا ودوليًا.
وبناءً على هذا، يمكن القول إن نظامي حافظ الأسد وبشار الأسد قد ارتكبا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد الشعب السوري على مدى عقود، بدءًا من مجزرة حماة سنة 1982، وصولًا إلى الحرب المستمرة منذ سنة 2011.
ويمكن إجمال هذه الانتهاكات في الفظاعات الاتية، مع ترك المجال للضحايا وللفاعلين المحليين لإضافة ما يرونه من انتهاكات تنطيق علها المعايير الدولية في تصنيفها للانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، وهي:
1. القمع السياسي والمجازر الجماعية
- - مجزرة تدمر (1980): إعدام حوالي 1000 معتقل سياسي داخل سجن تدمر بأوامر من رفعت الأسد.
- مجزرة حماة (1982): قتل حوالي 20,000 إلى 40,000 شخص على يد قوات حافظ الأسد لسحق تمرد الإخوان المسلمين.
- التصفية السياسية: قمع الأحزاب المعارضة واعتقال المعارضين والمثقفين.
2. الاعتقالات التعسفية والتعذيب الوحشي
- السجون السرية مثل تدمر، صيدنايا، وعدرا تحولت إلى أماكن تعذيب وقتل بطيء.
- استخدام الاغتصاب، الصدمات الكهربائية، كسر العظام، والحرمان من الطعام ضد المعتقلين.
- آلاف المعتقلين اختفوا قسريًا ولم يُعرف مصيرهم.
3. استخدام الأسلحة الكيماوية:
- مجزرة الغوطة (2013): مقتل أكثر من 1400 مدني بالغازات السامة (السارين).
- هجمات كيماوية متكررة في خان شيخون (2017) ودوما (2018).
4. القصف العشوائي والدمار الشامل:
- استخدام البراميل المتفجرة ضد المدن والمناطق السكنية.
- استهداف المستشفيات والمدارس والأسواق بشكل منهجي.
- تهجير ملايين السوريين داخليًا وخارجيًا.
5. الحصار والتجويع
- فرض حصار على مدن مثل الغوطة الشرقية، مضايا، وحمص، مما أدى إلى مجاعة جماعية.
- منع المساعدات الإنسانية واستخدام التجويع كسلاح حرب.
- ممارسة سياسة عنصرية ممنهحة ضد الأكراد.
6. جرائم الحرب ضد المدنيين
- عمليات إعدام جماعية في المعتقلات، مثل صور قيصر التي كشفت تعذيب وقتل آلاف السجناء.
- التلاعب بالمساعدات الإنسانية واستخدامها كورقة ضغط سياسي.
7. استخدام الميليشيات الأجنبية والطائفية
- إدخال ميليشيات مثل حزب الله، الحرس الثوري الإيراني، وميليشيات شيعية عراقية لقمع الثورة.
- إشعال حرب طائفية واستهداف مناطق معينة بالقصف والتهجير القسري.
هذه هي أهمّ الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي مارستها الدولة السورية في زمن حكم حافظ الأسد، ثم ابنه بشار الأسد. وهي جرائم خطيرة، غير قابلة للتقادم، ومن المؤكد أن لجنة الإنصاف والمصالحة، في حال قيامها، ستكشف عن جرائم أخرى ارتُكبت في الظلام الدامس، كما أن الضحايا، حين يشعرون بالأمان، سيُطلقون العنان لحريتهم للتعبير عمّا مسّهم من جُرم يدخل بدون شك في هذه الخانة.
ولمعالجة هذه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، باستخدام منهجية العدالة الانتقالية، فالأمر يتطلب:
تمر هذه العملية عبر إنشاء هيئة وطنية للحقيقة والمساءلة لتوثيق الجرائم والانتهاكات، على غرار "لجان الحقيقة والمصالحة" في جنوب إفريقيا، أو هيئة الإنصاف والمصالحة المغربية. ومن مهام هذه الهيئة جمع الأدلة والشهادات حول كل الانتهاكات السالفة الذكر، أو تلك التي سيجري الكشف عنها بعد تأسيسها.
وهنا، من الضروري أن نُشير إلى أن مفهوم الحقيقة في العدالة الانتقالية يختلف عن مفهوم الحقيقة في التاريخ. فالحقيقة في هذا السياق تعني محاولة الإجابة عن الأسئلة التالية:
* من أمر بتنفيذ الجريمة؟
* من نفّذها؟
* ومن استفاد منها؟
كما يجب التأكيد على أن التحديد الدقيق للفترة الزمنية المعنية بالمعالجة هو أمر بالغ الأهمية من أجل ضمان نجاعة عمل هيئة المصالحة، ذلك أن دورها هو الإسهام في رسم الطريق نحو دولة الحق والديمقراطية، عبر الإقرار والاعتراف الرسمي بما حدث من انتهاكات خلال تلك الفترة، وليس كتابة تاريخ سوريا.
كذلك، من المهم الإشارة إلى أن مرسوم إحداث هيئة الحقيقة هو الذي يحدد طبيعة اشتغالها ومدتها، وطرق الإعلان عن تقريرها النهائي، وتوصياتها، وآليات تنفيذها.
وإذا كان هناك اختلاف بين هيئات الحقيقة والمصالحة في العديد من النقاط، ولا سيما في أساليب التعامل مع المسؤولين عن الانتهاكات ومحاسبتهم، فإن ما تتفق عليه جميعها هو ضرورة جبر ضرر الضحايا أفرادًا وجماعات، وكذلك جبر الضرر الاقتصادي الذي عانت منه المناطق التي سكنوها وتعرّضوا فيها للانتهاكات.
2- جبر الضرر وتعويض الضحايا:
نُميز في جبر الضرر بين جبر الضرر الفردي، وجبر الضرر الجماعي، وجبر الضرر المناطقي.
يتضمن جبر الضرر الفردي والجماعي ما يلي:
* تعويض الضحايا، أفرادًا وجماعات، وأسرهم ماليًا ومعنويًا.
* تقديم الرعاية الطبية والنفسية والاجتماعية لضحايا التعذيب والناجين من الاعتقال.
* إعادة الاعتبار للضحايا اجتماعيًا، وسياسيًا، ومهنيًا.
أما جبر الضرر المناطقي، فيعني معالجة الضرر الذي لحق بالمناطق التي عانى أهلها من القمع، والعمل على إدماجها اقتصاديًا بباقي المناطق التي لم تتأثر بهذه الظاهرة الخطيرة، التي تسببت في تعطيل الدورة الاقتصادية، وأثّرت بشكل عميق على التنمية المحلية والعدالة المجالية.
3- الإصلاح المؤسسي وضمانات عدم التكرار:
في هذا الشق من الضروري التمييز بين مصالحة جزت في ظل استمرار نفس النظام السياسي، كما حدث في المغرب، و مصالحة تجرى في ظل نظام جديد عقب ثورة او ما أدى الى استئصال النظام القديم كما هو الحال في الوضع السوري الذي نحن إزاء تحليله الان ، في مثل الوضع السوري الامر يتطلب ، بالرغم من استئصال النظام السابق ، الانتباه الشديد الى التوازنات القائمة و الحرص الشديد عليها ، و قد وصفها أحد الفاعلين المغاربة الأمر بالسير على بيض النمل . في الوضع السوري أعتقد أن لجنة الحقيقة سوف تدعو الى :
- تفكيك الأجهزة الأمنية التي ارتكبت الجرائم (المخابرات، الفروع الأمنية، الشرطة العسكرية).
- إصلاح القضاء لضمان استقلاليته ومنع استخدامه كأداة قمعية.
- تطهير الجيش والأجهزة الأمنية من المتورطين في الانتهاكات واستبدالهم بقيادات مهنية وغير طائفية.
- إصلاح المناهج التعليمية والإعلام لتوعية المجتمع حول حقوق الإنسان ومنع إعادة إنتاج الفكر الاستبدادي.
ومن هنا من الضروري الإشارة الى أن تجارب العدالة الانتقالية لا تفرز لا غالب و لا مغلوب ، فكل التجارب الناجحة عملت على ابراز غالب واحد هو البلد ومستقبله الديمقراطي . من هنا فالوضع السوري سيتطلب :
4 - المصالحة الوطنية وبناء السلام، ويمر عبر:
* إطلاق حوار وطني شامل يجمع كل المكونات السورية من أجل بناء عقد اجتماعي جديد.
* دعم برامج المصالحة المجتمعية بين الفئات المتضررة لإعادة بناء الثقة المجتمعية.
* تعزيز ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية كسبيل لمنع تكرار الحروب الأهلية والطائفية مستقبلاً.
وفي خلاصة الإجابة على هذا السؤال، يمكن القول إن تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا يتطلب أولًا وقبل كل شيء ثقة ونُبل جميع الفرقاء، وإرادة سياسية صادقة، ودعمًا دوليًا وازنًا.
ولضمان نجاعة التجربة، ينبغي أن يكون الحل حلًا شاملًا يجمع بين المحاسبة، والإنصاف، والإصلاح، والمصالحة، بما يضمن تحقيق عدالة حقيقية وبناء دولة قائمة على الحرية وسيادة القانون.
كيف يمكن التأكد من احترام حقوق الضحايا في سوريا خلال مرحلة العدالة الانتقالية؟
كما أشرت سابقًا، فإن العدالة الانتقالية مسار طويل يتطلب بالضرورة ثقة ونُبل وشجاعة الفرقاء المشتركين فيه. فهذه الثقة ليست فقط ضرورية لبناء التجربة، بل أيضًا لاستمرارها وضمان احترام حقوق الضحايا، بل وحتى حقوق الجلادين، لأن موضوع الجلادين في السياق السوري، كما في كل التجارب المقارنة، معقّد وعميق التحليل.
ففي عدد من التجارب، كان من الصعب التمييز بين الجلاد والضحية، كما طُرِح في تجارب أخرى سؤال الأمر المباشر بالتنفيذ، وخصوصًا حين يكون الأمر صادرًا عن مرجعية عسكرية صارمة، حيث تذوب المسؤوليات الفردية داخل منظومة أوامر تراتبية.
ما هي أنواع الانتهاكات التي يجب أن تعالجها العدالة الانتقالية في سوريا؟
بالإضافة إلى الانتهاكات الجسيمة التي ذكرتها أعلاه، كل الضحايا يمكن ان يطرحوا ملفاتهم التي تتضمن الانتهاك الدي تعرضوا له، كما ان كل الجمعيات الوطنية و الدولية يمكن لها كذلك طرح ملفاتهم، وعلى لجن لحقيقة التحقق من حقيقتها .
كيف يمكن تصنيف المسؤوليات على مختلف الأطراف (النظام السوري، الجماعات المسلحة، وغيرها)؟
تصنيف المسؤوليات عن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا مسألة معقدة بسبب تعدد الفاعلين والانتهاكات التي ارتكبتها مختلف الأطراف ولاسيما منذ اندلاع النزاع في 2011. ويمكن تحليل هذه المسؤوليات على النحو التالي، وأنا هنا سأعتمد كلية على التقارير الدولية الصادرة في الموضوع، وعلى لجنة الحقيقة المقبلة التأكيد من صحتها ومدي توافق طبيعتها على ما يسمى في الادبيات الحقوقية بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان:
1. نظام الأسد:
يُعتبر الطرف الأساسي المسؤول عن انتهاكات واسعة وفق تقارير منظمات حقوقية دولية (الأمم المتحدة، هيومن رايتس ووتش، العفو الدولية):
• القصف العشوائي واستخدام الأسلحة المحرمة: مثل البراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية (هجمات الغوطة 2013، خان شيخون 2017، وغيرها).
• الاعتقالات التعسفية والتعذيب: في مراكز الاعتقال التابعة للمخابرات السورية، مثل سجن صيدنايا، حيث وثّقت تقارير التعذيب والإعدامات الجماعية.
• الحصار والتجويع: في مناطق مثل الغوطة الشرقية، مضايا، وحمص، حيث تم منع وصول المساعدات الإنسانية.
• التهجير القسري والتغيير الديموغرافي: من خلال استهداف مناطق معينة وفرض اتفاقيات تهجير سكاني.
2. الجماعات المسلحة المعارضة:
بعض الفصائل المعارضة ارتكبت انتهاكات رغم اختلاف أيديولوجياتها ومدى انضباطها:
• الاعتقالات والانتهاكات بحق المدنيين، خصوصًا من قبل جماعات مثل “جيش الإسلام” و”أحرار الشام”.
• استخدام الأسلحة العشوائية في القصف على مناطق مدنية خاضعة للنظام.
• التجنيد الإجباري، خاصة في صفوف الأطفال في بعض المناطق.
3. الجماعات الجهادية (داعش وهيئة تحرير الشام/النصرة)
• جرائم ضد الإنسانية: الإعدامات الجماعية، قطع الرؤوس، العبودية الجنسية (مثلما حدث مع الإيزيديين).
• فرض أحكام متطرفة وقمع الحريات في المناطق التي سيطروا عليها.
• استهداف الأقليات الدينية والعرقية بعمليات إبادة وتهجير قسري.
4. القوات الكردية (قوات سوريا الديمقراطية – قسد)
• الاعتقالات والانتهاكات ضد معارضيها، خاصة في المناطق العربية التي سيطرت عليها.
• التجنيد الإجباري للأطفال، وهو ما تم توثيقه في تقارير أممية.
• التهجير القسري لبعض السكان العرب في شمال شرق سوريا وفق تقارير حقوقية.
5. القوى الإقليمية والدولية
• روسيا: الدعم العسكري للنظام، قصف المدنيين، واستهداف المستشفيات والمدارس.
• إيران والميليشيات التابعة لها: مثل “حزب الله”، المشاركة في المعارك والانتهاكات بحق المدنيين.
• تركيا: دعم فصائل متهمة بارتكاب انتهاكات في الشمال السوري، مثل “الجيش الوطني السوري”، وعمليات التهجير القسري في مناطق مثل عفرين.
• التحالف الدولي (بقيادة الولايات المتحدة): مسؤول عن ضربات جوية أدت إلى مقتل مدنيين، كما في الرقة ودير الزور.
في الخلاصة فالمسؤولية عن الانتهاكات في سوريا موزعة بين مختلف الأطراف، حيث ارتكب كل طرف جرائم بدرجات متفاوتة. النظام السوري يتحمل المسؤولية الأكبر بسبب استخدامه أجهزة الدولة بشكل منهجي لقمع السكان، لكن الجماعات المسلحة، سواء المعارضة أو الجهادية، مسؤولة أيضًا عن جرائم حرب. التدخلات الإقليمية والدولية زادت من تعقيد المشهد، وجعلت المساءلة أكثر صعوبة.
ما هي الآليات اللازمة لتوثيق الانتهاكات بشكل دقيق وشامل؟
لتوثيق الانتهاكات بشكل دقيق وشامل لا بد من انشاء لجنة حقيقة وإنصاف ومصالحة قادرة على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا بشكل دقيق وشامل، لا بد من اتباع آليات متعددة لضمان النزاهة والمصداقية والعدالة. يمكن تصنيف هذه الآليات إلى عدة مستويات، وأنا هنا استحضر التجربة المغربية التي كانت لها شجاعة قل نظيرها في هذا المجال مستفيدة أساسا من خطاب ملك الملك الذي أكد غداة تنصيب هيئة الانصاف والمصالحة المغربية أن جلالته يريد أن تكون اللجنة التي ستتشكل لجنة للحقيقة، وقد كان لي الشرف انني كنت من الموقعين على عريضة رفعت الى جلالته في هذا الموضوع رفقة 13 من أهم وجوه التجربة المغربية:
اذا يمكن تصنيف هذه الآليات إلى عدة مستويات، وهي :
1. جمع الأدلة والشهادات
• إنشاء قاعدة بيانات موحدة تحتوي على معلومات تفصيلية عن الضحايا، الجناة، وأشكال الانتهاكات.
• جمع شهادات الناجين والشهود من خلال مقابلات موثقة بالفيديو أو الكتابة، مع توفير الحماية لهم.
• الاستفادة من تقارير المنظمات الدولية (مثل الأمم المتحدة، هيومن رايتس ووتش، العفو الدولية) كأدلة مرجعية.
• تحليل الأدلة الرقمية (صور، مقاطع فيديو، تسجيلات، وثائق مسربة) باستخدام تقنيات الطب الشرعي الرقمي.
2. توثيق الانتهاكات وفق المعايير الدولية
• الاعتماد على معايير القانون الدولي (اتفاقيات جنيف، نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية).
• تصنيف الجرائم وفق طبيعتها:
• جرائم حرب (الهجمات العشوائية، استخدام الأسلحة المحرمة، استهداف المدنيين).
• جرائم ضد الإنسانية (الإبادة الجماعية، التهجير القسري، التعذيب، الاعتقال التعسفي).
• جرائم الإرهاب (التي ارتكبتها جماعات مثل داعش).
3. إنشاء هيئات متخصصة داخل اللجنة
• لجنة الشهادات والتوثيق: لجمع الإفادات وحمايتها.
• لجنة التحليل القانوني: لتحديد المسؤوليات القانونية.
• لجنة البحث في المفقودين والمقابر الجماعية: بالتعاون مع خبراء الطب الشرعي.
• لجنة الأرشفة الرقمية: لحماية الوثائق من التلاعب والضياع.
4. ضمان الحياد والاستقلالية
• تشكيل اللجنة من شخصيات مستقلة غير متورطة في النزاع.
• إشراف دولي لضمان الشفافية، مع دعم من الأمم المتحدة أو منظمات حقوقية.
• حماية المبلغين والشهود عبر آليات قانونية توفر لهم الأمان.
5. تحديد آليات المساءلة والمصالحة
• محاسبة الجناة وفق العدالة الانتقالية، وطبيعة التجربة.
• تقديم تعويضات وجبر الضرر للضحايا وأسرهم.
• إصدار تقرير نهائي شامل يعترف بالانتهاكات ويقترح توصيات لمنع تكرارها.
• تنفيذ برامج مصالحة وطنية لتهدئة الأوضاع الاجتماعية والسياسية.
إذا فتوثيق الانتهاكات في إطار لجنة الحقيقة والإنصاف والمصالحة في سوريا يتطلب منهجية شاملة تشمل جمع الأدلة، التحقيق القانوني، ضمان الحياد، وتحديد آليات العدالة الانتقالية. هل لديك اهتمام بجانب معين من هذه الآليات
كيف يمكن ضمان حيادية الأطراف المشتركين في العملية؟
ضمان حيادية لجنة الحقيقة والإنصاف والمصالحة في سوريا يمثل تحديًا كبيرًا بسبب التشابك بين الأطراف المتورطة في النزاع. لتحقيق ذلك، يجب تبني آليات قوية تكفل الشفافية، الاستقلالية، والمصداقية. فوفق تجربتي، أقترح الخطوات الاتية لضمان الحياد في عمل اللجنة:
1. اختيار أعضاء مستقلين وذوي مصداقية
• تشكيل اللجنة من خبراء قانونيين، قضاة، حقوقيين، وأكاديميين غير منتمين لأي طرف من أطراف النزاع.
• استبعاد أي شخصية لها سجل في الانتهاكات أو مواقف منحازة.
• الاستفادة من خبرات لجان الحقيقة السابقة في دول مثل جنوب إفريقيا، المغرب، وتشيلي لضمان المعايير الدولية.
2. إشراف دولي لضمان النزاهة
• إشراك الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان كمراقبين ومستشارين لضمان الاستقلالية.
• وضع آلية مراجعة دولية من خلال فرق تحقيق مستقلة تُقيّم تقارير اللجنة بشكل دوري.
• التعاون مع الهيئات القضائية الدولية (مثل المحكمة الجنائية الدولية) لمتابعة القضايا الحساسة.
3. اعتماد منهجية واضحة وشفافة في التوثيق
• وضع معايير موحدة لتوثيق الانتهاكات بعيدًا عن الروايات السياسية أو الأيديولوجية.
• نشر تحديثات وتقارير دورية حول تقدم التحقيقات لطمأنة الجمهور وضمان الشفافية.
• توفير إمكانية الطعن والتظلم للمتضررين أو المتهمين في إطار العدالة الانتقالية.
4. حماية الشهود والضحايا من أي ضغوط
• إنشاء آلية لحماية الشهود والمبلغين عن الجرائم، بما في ذلك إمكانية الإدلاء بشهادات مجهولة الهوية.
• وضع قوانين تمنع الترهيب أو الانتقام من أي شخص يتعاون مع اللجنة.
• توفير مساعدة نفسية وقانونية للضحايا لمنع استغلالهم سياسياً.
5. منع تسييس اللجنة أو استغلالها لصالح طرف معين
• تجنب اللغة التحريضية أو التصريحات التي توحي بانحياز اللجنة لطرف معين.
• فرض قيود على تدخل الحكومات أو الجماعات المسلحة في عمل اللجنة.
• التأكيد على أن عمل اللجنة ليس انتقامياً، بل يهدف إلى تحقيق العدالة والمصالحة.
6. إشراك المجتمع المدني في الرقابة
• تمكين منظمات المجتمع المدني من متابعة عمل اللجنة والإبلاغ عن أي تجاوزات.
• السماح للإعلام المستقل والصحافة بتغطية عمل اللجنة تحت معايير أخلاقية واضحة.
• إجراء حوار وطني حول العدالة الانتقالية لضمان دعم مجتمعي واسع.
هكذا يمكن تحقيق الحياد من خلال اختيار شخصيات مستقلة، الإشراف الدولي، ضمان الشفافية، حماية الشهود، ومنع التسييس. كل هذه الخطوات تجعل اللجنة قادرة على تأدية دورها دون الانحياز لأي طرف.
هل يمكن لمؤسسات محلية أو دولية أن تلعب دورًا في تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا؟
نعم، يمكن لكل من المؤسسات المحلية والدولية أن تلعب دورًا أساسيًا في تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، سواء من خلال التوثيق، المحاسبة، المصالحة، أودعم الضحايا.