من اللافت لانتباه أي مراقب تلافي الإعلام القطري والتركي بشكل تام تناول التصعيد البهلواني الجزائري ضد المغرب منذ خمس سنوات، وعلى عكس ما فعلته تلفزيونات أخرى من قبيل فرانس 24 وروسيا اليوم والحرة وBBC وI24 وغيرها من المنابر التي لم تتوقف عن إنتاج المناظرات التلفزيونية بين المتحدثين من المغرب والجزائر والبوليساريو، وبين كل هذه المحطات؛ وعلى عكسها؛ لا يكاد المرء يصادف ولا مناظرة واحدة أو مادة إعلامية مثيرة على الجزيرة أو التلفزيون العربي أو تلفزيون الشرق أو قناة مكملين أو غيرهم من منابر قطر وتركيا.
وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى ترفعا أخلاقيا وسياسيا عن الدخول في آتون خلاف بين بلدين جارين، ولو أنه خلاف جرى تصعيده من جانب واحد، وقد يبدو اختيارا مهنيا يفضل أصحابه التركيز على مواضيع الشرق الأوسط وأوكرانيا والصين والولايات المتحدة، لكنه في حقيقة الأمر ليس سوى مخاتلة مخادِعة ناجمة عن سعي حثيث إلى جعل النقاش بين المغاربة والجزائريين بخصوص قضايا بعينها من قبيل استئناف العلاقات المغربية الإسرائيلية، جعله نقاشا داخليا، داخل المغرب، وليس نقاشا بين المغاربة والجزائريين، وذلك بقدر ما مجرد تبني الجزائر لذلك الخطاب المُضاد يأتي بنتائج عكسية، ويدفع المغاربة إلى تأييد قرار الدولة لا معارضته.
ويبدو أن منهجية انتقاد قرارات الدولة المغربية بالتزامن مع انتقاد سلوكات الجزائر وطموحات بوليساريو قد أصبحت هي المنهجية التي يتبناها كل ذي موقف مناقض لجوهر فلسفة الدولة المغربية وقراراتها، وكل حامل لفلسفة فوضوية عدمية تزحف بخبث نحو تحقيق أهدافها يجعل تلك الفكرة من مسلماته، وبالتالي فإن آلة الإعلام القطرية نأت بنفسها عن تناول تلك المواضيع كي لا تأتي بنتائج عكسية، لا سواء حينما ينتبه الرأي العام المغربي إلى أجندة قطر، أو حينما يجري ضخ النقاش في اتجاه يقسم الرأي العام بين الجزائر والمغرب، وواقع الحال أن الغاية عند هؤلاء هي شطر الرأي العام المغربي إلى شطرين حيال الدعاية الجزائرية، وليس دفعه نحو الاصطفاف ضدها.
ولذلك فإن مراجعة التراكم الذي كانت قد بدأته مجموعة رودولف سعادة في فرنسا؛ ألتيس ميديا، والذي سبق لي أن شرّحته بتفصيلٍ وافٍ، يُظهر كيف أن الغاية من نشر العديد من الأخبار الكاذبة مثل مرور سفن محملة بالسلاح عبر ميناء طنجة، أو قمر المليار دولار، لم تكن سوى لغرض واحد هو تقسيم الرأي العام المغربي، وسواء أكان الأمر ناجما عن تنسيق فرنسي قطري وقتئذ أم لم يكن، فإن إخوان المغرب قد أخذوا على عاتقهم مهمة صناعة الاستقطاب الحاد، وإن كنت أميل إلى تبني فرضية التنسيق، لأن دعاية منابر ألتيس ميديا كانت تجد لها صدى في موقع كالكيليست الإسرائيلي الذي توجد داخله خيوط فرنسية، وكانت وماتزال مقالاته وتقاريره تُسيل لعاب الجزيرة وكافة قنوات الإخوان وتركيا وحتى قنوات إيران وحلف المماتعة.
بعد تلك المواجهة المفتوحة مع فرنسا، نجح المغرب في كبح جماح بلاد قبائل الفرنجة، ومن ثم تحييدها تماما من جميع مساحات الاشتباك، لكن استمرت الدعايتان الجزائرية والإخوانية في استعمالهما لتلك الأخبار الكاذبة، وطفقا معا في لوك الدعاية المضللة والمدغدغة للعواطف والأكاذيب. فمنذ أن "أخذت الجزائر علما" بتغيير قادم في الموقف الفرنسي اتجاه مغربية الصحراء، ثم أعلنت فرنسا موقفها في نهاية يوليو من العام الماضي، بدا واضحا أن الجزائر ستنشغل بفصول "فݣعة" طويلة مع فرنسا، ولن يكون في مقدورها مواصلة لوك الدعاية المضللة إياها ضد المغرب، ووجدت الآلة القطرية الإخوانية نفسها وحيدة في هذا الخضم، ولابد لها من اختراق فضاءات التواصل الاجتماعي بطريقة ناعمة، فبدأت تؤثث فضاءات بعض مواقعها المشبوهة كموقع "عربي21" المملوك لعزمي بشارة، ببعض الشباب المغربي الناجح في صناعة المحتوى أو البودكاست، في سعي خبيث يروم استثمار جذوة النجاح والتميز والطموح لدى هؤلاء الشباب.
وفي الأشهر التالية لتلك الفترة بدأت تتراكم عبر منصة ذلك الموقع حلقات حوارية مع شخصيات من قبيل ابن كيران والعثماني وأمكاسو وعزيز غالي ورضى بنشمسي، أو محتويات بالدارجة المغربية دون توجه مباشر، لكن بغرض استقطاب الرأي العام المغربي، ليبدأ تدريجيا تصويره في حالة انقسام وتناظر حيال قرارات المغرب في السياسة الخارجية، وكأن إخوان المغرب والطيور الواقعة على أشكالهم يمثلون فعلا قسما من الرأي العام، وليسوا مجرد فاعل سياسي يهجس بهاجس الصندوق الانتخابي ووجد في غضب المغاربة من جرائم إسرائيل واديا جاريا فاختار السير في اتجاه جريانه فقط، علّه يُنسيه غضبه الحانق أيضا على أداء هذا الحزب حينما كان يسيّر شؤون الحكومة لعشر سنوات، وعساه يستغل كل هذه الظرفية؛ بما فيها الحصيلة الهزيلة والضعيفة والمحبطة للحكومة الحالية.
إن ما يجري تصويره الآن عبر مهندسي ماكينة عزمي بشارة في المغرب باعتباره انقساما داخل قطاعات الرأي العام المغربي ليس سوى استغلال لجملة من الظروف لكي يجد حزب العدالة التنمية لنفسه موقعا ضمن الخريطة الانتخابية المقبلة، حيث جرى قدح الشرارة الأولى باختلاق الاصطفاف والانقسام المذكور، ثم ستعمل تلك الشرارة بشكل تلقائي على التنامي في منصات أخرى ووسائط أخرى، مادامت قادرة على جذب الاهتمام والمتابعة، ومادامت خيول عزمي جاهزة للركض، فلذلك يجري على ألسنة هؤلاء المزج بين الإدانة الدوغمائية للتوجهات الدبلوماسية للبلاد، وبين الإدانة اللاذعة لحصيلة حكومة أخنوش، ويحدث ذلك سواء على ألسنة ذات الأشخاص أو على ألسنة أشخاص جرى توكيل كل واحد منهم مهام التركيز على خط بعينه وجمهور بعينه.
فلنا أن نتصور أنه من أجل هذا يجري اعتماد تقنية رجل القش؛ ليتم وصم السياسة الخارجية للمغرب بأنها خاطئة، والإيهام بانها حتى لو صدرت عن الملك فهي يمكن أن تكون خاطئة، ويجري بجرة قلم مقارنة قرار استئناف العلاقات مع إسرائيل بتوقيع اتفاقية الحماية، ولست أدري في أي منطق يمكن أن تستقيم هذه المقارنة؟، وهل يمكن أن نجد بلدا ديمقراطيا واحدا في العالم يتخذ قراراته في السياسة الخارجية بعد أن يستفتي كل مواطنيه أو يرضي القلة الرافضة؟ هل فعلت الولايات المتحدة هذا حينما غزت العراق وأفغانستان أو حينما انسحبت منهما؟ أو حينما تصالحت مع الصين؟ أو حينما عقدت اتفاقا نوويا مع إيران أو حينما انسحبت منه؟ وهل فعلت فرنسا شيئا مماثلا حينما قررت الاعتراف بمغربية الصحراء؟ أو حينما قررت اسبانيا وألمانيا قرارات مماثلة؟.
في أي علم للسياسة يوجد هذا المنطق؟ أو في علم للقانون الدولي أو في أي دراسات دبلوماسية ودولية يوجد هكذا فهم؟ ولا أريد أن اعطي أمثلة هنا بتركيا وقطر وفي علاقاتهما مع إسرائيل، فهما غرفة النوم التي لا يحب الإخوان المسلمون أن نتحدث عنهما ولا عن صهيونيتهما، واستقبالهما للقواعد العسكرية ومراكز الأبحاث ونشاطات عتاة الصهيونية من قبيل مارتن أنديك وحاييم سابان ومن على شاكلتهما. بل إنه ينبغي فقط التأمل في كيف تجري المقارنة بين هذا القرار وبين التوقيع على معاهدة فاس للعام 1912، مع فوارق لا حصر لها في الظرفية وموازين القوى والمضامين، ولو جادله محادثه قليلا لقال له إن توقيع معاهدة لا مغنية أيضا تسببت في أضرار ترابية للمغرب وبالتالي فإن قرارات الملوك يمكن أن تكون خاطئة، إذن فقرار استئناف العلاقات مع إسرائيل خاطئ!!...هذا النوع من الاستدلال يطلق عليه في علم المنطق "مغالطة الاستقراء الكسول"، لأن ينطلق من مسبوق معين ويبحث عن أي أمثلة غير متطابقة لكي يبرهن على مسبوقه، المهم أن يكون الشخص الذي يحاوره "رجل قش".
ويطفق ذات الشخص محاورا "رجل القش" عن الإمارات وعملائها وأدوارها، دون أن ينبهه محادثه إلى أن ثمة سيلا من إخوانه البارزين القياديين ومن نخب حزبه من لا يتوقفون عن الغرْف من أموال الإمارات ومراكزها بل ومنهم من يعملون في تلفزيوناتها، وشخصيا أعرف مراسلين "إخوانا" لتلفزيونات إماراتية، وأعرف منافحين عن الإخوان وفكرهم وحزبهم عملوا في مؤسسات بحثية إماراتية ونُشرت لهم الكتب والدراسات، ومنهم من يعيشون في الإمارات العربية المتحدة، ومنهم من مازالوا إلى اليوم ينشرون مقالاتهم في موقع لا يتوقف صاحبنا عن وصمه بكونه "إماراتيا". فلماذا المزايدة في موضوع كهذا وإخوان المتحدث هم الأكثر إقبالا عليه؟، ثم ما الفرق بين الإمارات وقطر، فكلتاهما تبحثان عن الترويج لمواقفهما باستعمال الإعلام والثقافة والفكر والسياسة، فقط قطر تتفوق على الإمارات بكونها تمتلك ناصية تنظيم عالمي يستغل الدين لدغدغة العواطف والمشاعر بغرض الوصول إلى السلطة في البلاد العربية، وتسليع عشرات شهود الزور من أشباه الأكاديميين يتزعمهم قائد الجوقة عزمي بشارة ليجري القول إن الانتقال الديمقراطي والاعتدال يقاسان بدرجة تسهيل وصول الإخوان للحكم.
وتبعا لهذا يبدو أن معظم من تناولوا عبارات ابن كيران المثيرة للجدل قد سقطوا في منطق "المعضلات الأخلاقية"، وهذا السقوط يفيد "علم سياسة" الرجل أكثر مما يظهر قراءته للتوقيت (إن لم نقل علمه بشيء ما)، فالاندفاع القطري الإخواني في وضع إقليمي يسمح له بإعادة التموضع تأسيسا على سقوط الأسد ونتائج حرب غزة الكارثية على أهل فلسطين و"السمن والعسل" على المشروع الإخواني المتهالك، والسياق الوطني بات يعيش مناخا انتخابيا بامتياز، وثمة "زيتُوتٌ" قد عاد إلى المشهد ويعمل على تأثيث الأجواء على أفضل حال، وإن لم يستثمر ابن كيران كل هذا ليعود إلى الواجهة عبر فرقعاته المعهودة مستفيدا من جلده السياسي السميك فليس هو ابن كيران الذي يعرفه من يعرف السياسة في المغرب.
لقد فضل ابن كيران أن يتلافى هذه المرة توظيف ما يشبه المفاهيم، ولم يعد يستعمل عبارة "التحكم"؛ التي لطالما حاول الترويج لها منذ العام 2007، ليبرر منطق المشاركة في الحكم التي تعوقها "موانع التحكم"، بقدر ما أن الحكم في الفكر الإخواني عموما ليس هو المشكلة إن جرى التقرب منه أو القيام بأدوار إلى جانبه أو معه، كما كان يطمح إلى ذلك حسن البنا مع الملك فاروق، بل إن المشكلة في المؤسسة التي هي في عرف الإخوان "تحكّمٌ" مرفوض، هو في حد ذاته لب المشكلة، لأنه يعوق غايةَ مخاتلةِ الحكم والتماهي معه اعتمادا على الوصايا التلمسانية، بغرض الوصول إلى الحاكمية. وهي خطاطة تكشف فقط أن الفرق بين الإخوان المسلمين ومن يشابههم أو حتى من يناقضهم من تيارات "الإسلام السياسي" ليس سوى فرق في الطريقة والمنهجية والتريث واستعمال الزمن، وهي ضرورات تجعل الكذب والخداع والادعاء واتهام الآخرين وحتى الشتم تصبح تقنيات خطابية مفضلة لدى هذا التيار.
في وجه كل هذا يبدو أن الإخوان المسلمين ليسوا سوى صهيونية غير يهودية، لا تختلف عن الصهيونية اليهودية في شيء، كلتاهما حركتان سياسيتان تستعملان الدين، تدعيان المظلومية، وتطمحان إلى الوصول إلى السلطة، أو حتى صناعتها من رحم العدم أو الفوضى، وللتغطية على هذا يجري وصم علاقة دبلوماسية لدولة معينة بدولة أخرى اسمها إسرائيل، إسرائيل التي ليست سوى دولة يحملُ جنسيتها مواطنون يهود ومسلمون ومسيحيون ودروز، وداخل يهودها توجد تيارات دينية أرثوذوكسية مناهضة للصهيونية، وأحزاب يسارية وحقوقيون يهود مناصرون لحقوق الفلسطينيين، في حين يريد ذلك الخطاب أن يُبْعد عن نفسه تهمة كونه صهيونية غير يهودية، إن من حيث تطابق الهيكل النظري أو من حيث تعيُّشِه وتكسُّبه ورهانِه سياسيا على خطاب تلك الصهيونية وخطاب من يدعمها.