لقد دأب المؤرخون للعلوم وتاريخ الأفكار على البدء بالحضارة الإغريقية فالحضارة الرومانية وصولا إلى العصور الحديثة مع إغفال شبه تام لمنجزات بقية الحضارات الأخرى التي ساهمت في مضمار التطور الفكري والعلمي للبشرية وإن درجات متفاوتة. يصدق ذلك على الحضارات السابقة للحضارة اليونانية وفي مقدمتها الحضارة المصرية والصينية والهندية وحضارة بلاد ما بين النهرين، كما يصدق صدقا أوضح على منجزات الحضارة الإسلامية التالية للحضارة الإغريقية والرومانية وهي منجزات لا سبيل لإنكارها في مجال تاريخ الافكار بذريعة غياب الوثائق التي يُتذرع بها بالنسبة لبعض الحضارات الغابرة.
ومع ذلك نجد أن عددا لا يستهان به من الدارسين لا يجدون غضاضة في القفز التاريخي من العصر الإغريقي إلى عصر النهضة الأوربية كأن لا شيء حدث قرابة ألف عام هي من أزهى الفترات العلمية في تاريخ البشرية وكأنها حقبة ليست ذات بال في تطور الفكر البشري. وإذا ما قُدِّر لبعضهم أن يملأ الفجوة التاريخية ذكروا باقتضاب شديد أسماء لبعض علمائنا أمثال أبو بكر الرازي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن خلدون. ولنا أن نسجل أن هذا المنحى في التاريخ إنما ينم عن نزعة مركزية أوربية قوامها أن بلاد الإغريق هي مركز للفكر ومهد للحضارة ومنطلق كوني لمختلف أنواع المعارف والعلوم دون غيرها من الدول والشعوب على امتداد التاريخ. وهي نزعة برزت إبان القرن السابع عشر الميلادي واستفحلت مع تنامي التوسع الاستعماري للدول الأوربية وفي مقدمتها الامبراطورية الإنجليزية والفرنسية مع ما في ذلك من إخلال بأبسط المبادئ العلمية القائلة بتوارث العلم وتراكم المعارف وتقاسمها بين شعوب الأرض قاطبة.
وقد دعا إرنست رينان (ت. 1892م) التطور الثقافي الذي شهدته اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد بالمعجزة اليونانية (1883)، ويقصد بذلك بأن هذه المعجزة "أمر لم يتحقق سوى مرة واحدة ولم يشاهد قط من قبل ولن يُشاهد أبدا بعد ذلك..." (1). فكأن بلاد اليونان هي المبتدأ والمنتهى في مختلف المجالات الفكرية والثقافية والاجتماعية. وقد شملت هذه المجالات ميدان الفن المعماري والنحت والمسرح التراجيدي والهزلي والتاريخ والجغرافية والفلسفة والرياضيات والطب وغيرها من المعارف والعلوم والفنون. وعليه فلم يجد عدد من مؤرخي علم النفس وغيره من فروع العلوم الإنسانية غضاضة في أن يعزوا الحداثة إلى البلاد الأوربية وحدها بل جعلوا الحداثة الأوربية نموذجا يحتذى للبشرية جمعاء.
ورغبة في إظهار التفوق الأوربي والذروة العلمية والتقنية التي وصلت إليها الحضارة الأوربية في القرن المنصرم فقد عمد جمهور المفكرين الأوربيين إلى التنكر للحضارات السابقة والتهوين من شأنها حتى تظهر الحضارة الأوربية بمظهر التجديد والإبداع والتفوق المطلق على كل الحضارات. ورافق هذه النزعة الفكرية المتحيزة منحى عنصري أعلى من نصيب الجنس الآري في بناء الحضارة وجحد قدرة الإنسان السامي في التفكير، وأنزلوا الإنسان الأسود منزلة أقرب إلى الحيوان فيما يتصل بالقدرات العقلية والفكرية. بل ادعوا بأن المجتمعات التي أسموها بدائية ذات عقلية قبمنطقية. وعليه فيتعذر عليها وعلى المجتمع السامي أن يلحق بركب الحضارة المتقدمة فلا يسعه إلا أن تكون تبعا للإنسان الأبيض.
فلا عجب أن تنسب كثير من العلوم والإبداعات والابتكارات التي ساهمت فيها كثير من الشعوب والحضارات السابقة إلى الأوربيين أنفسهم مع كثير من التستر أو التمويه على العطاءات الحضارية لغير الشعوب الأوربية بل "سرقة التاريخ" على نحو ما ذهب إلى ذلك عالم الإناسة البريطاني جاك جودي (2).
ومن ثم يشق على المؤرخين المنصفين أن يجدوا الصدى المناسب فيما يكتب ويؤلف من أبحاث في هذا المضمار. والأدهى من ذلك أن نجد من الباحثين العرب والمسلمين أنفسهم من يترسم خطى المؤرخين الأوربيين بوجه خاص فيضربون صفحا عن اجتهادات علماء الأمة القدامى في مجال علم النفس جهلا من عند أنفسهم أو اقتداء بالغالب تبعا لنظرية ابن خلدون في هذا الشأن.
ومن ثم تدعو الحاجة إلى كتابة تاريخ العلوم بما في ذلك ما نسميه بعلوم الإنسان علم النفس بمراجعة ما خلفته الحضارة العربية الإسلامية من إرث أصيل على نحو يزيح الستار الكثيف من الجهل والإهمال والنسيان الذي لا زال يحجب الرؤية عن أجيال كثيرة من الباحثين المعاصرين في هذا المضمار. وهذه مهمة جليلة لا بد أن يضطلع بها يوما الجامعيون في بلادنا كل من موقع اختصاصه وأن يتفرغوا لسد هذه الفجوة الزمنية التي تضع الإنجازات الفكرية والعلمية لغير الشعوب الأوربية والأمريكية خارج التاريخ، وكان يجب أن تحتل الموقع الذي تبوئها لها المكانة التي تستحقها وفقا للسياق التاريخي الذي ظهرت فيها جنبا إلى جنب مع ما أنجزته البشرية بلا زيادة ولا نقصان.
1) Ernest Renan (1883). Souvenirs d'enfance et de jeunesse. Paris, p.60.
2) Jack Goody (2010). Le vol de l’histoire : Comment l’Europe a imposé le récit de son passé au reste du monde ?. Tr. : F. Durand-Bogaert. Paris, Gallimard, 2015. Voir aussi :
Martin Bernal (1987). Black Athena. Les racines afro-asiatiques de la civilisation classique. Vol. 1 : L’invention de la Grèce antique.. 1785-1985. Tr. De l’américain : M. Menget et N. Genaille. Paris, P.U.F., 1996, et Dipesh Chakrabarty (2000). Provincialiser l’Europe. La pensée postcoloniale et la différence historique. Tr. O. Ruchet et N. Vieillescazos. Paris, Ed. Amsterdam, 2009.