جاء ذلك جاء ذلك ضمن كلمة حزب الاستقلال، في ندوة تحت موضوع: "البرلمان وقضية الصحراء المغربية: من أجل دبلوماسية موازية ناجعة وترافع مؤسساتي فعال"، الإثنين 5 ماي 2025 بمقر مجلس المستشارين بالرباط.
ونظرا لأهمية المداخلة من مختصة خبرت ملف الصحراء حقوقيا، تنشر جريدة "أنفاس بريس" المداخلة الكاملة لعائشة ادويهي في هذه الندوة:
تأتي هذه الندوة في سياق وطني ودولي بالغ الأهمية، يتسم بتحولات حاسمة في مسار قضية الصحراء المغربية، حيث تنتقل المقاربة الدولية، تدريجيًا، من منطق إدارة الأزمة إلى التفكير في تسوية فعلية، مدفوعة بنضج المبادرة المغربية من جهة، وباختبار متزايد لفعالية الوساطة الأممية من جهة أخرى.
من موقعي كفاعلة حقوقية ومهتمة بتطورات ملف وحدتنا الترابية، سأحاول الإسهام في تفكيك أحد أعمق أبعاد هذا النزاع المفتعل، من خلال عنوان أراه مفتاحًا لفهم اللحظة:
"قضية الصحراء المغربية: آفاق المسار الأممي ودور المغرب في إعادة تشكيل مقاربات الحل."
عنوان يفرض علينا تجاوز الطرح الكلاسيكي الذي يُركّز على الأبعاد القانونية أو التاريخية أو الدبلوماسية
يبعدنا أيضا عن سؤال "من على حق؟" إلى سؤال أعمق: كيف تحولت القضية إلى نموذج إقليمي يعيد تركيب منطق الشرعية، ومقاربة الأمم المتحدة ذاتها لمفهوم الحل؟
تحولات المنظور الأممي: من الجمود الاستفتائي إلى الانفتاح على الحلول الواقعية
قبل سنة 2007، ظل منطق الأمم المتحدة أسيرًا لمعادلة استفتائية جامدة، اختزلت الحل في خيار تقني، مرحلة خلصت إلى: غياب أي حل في الأفق لمشكل النزاع حول الصحراء وازدياد المخاوف من انهيار اتفاقيات وقف إطلاق النار.
بالمقابل عرفت العلاقات الدولية تطورا مهما، مما مكن من التعاطي مع مبدأ تقرير المصير بنوع من المرونة والواقعية، بعدم حصره في صيغة الانفصال فقط، لأن ثمة صيغًا أخرى، يستند إليها القانون الدولي، قادرة على تجسيد أهداف وغايات هذا المبدأ.
بعد سنة 2007، تحول جذري في منهج مقاربة تدبير الأمم المتحدة للملف. فمباشرة مع تقديم المغرب لمبادرة الحكم الذاتي: بدأنا نلاحظ تحوّلًا في لهجة قرارات مجلس الأمن، حيث لم يعد الاستفتاء حاضرًا لا نصًا ولا روحًا، وبدأت تتبلور ثلاثية جديدة: حل سياسي – واقعي – متوافق عليه.
لينتقل المغرب بعدها مباشرة من الدفاع إلى المبادرة –مشكلا قواعد الحل
يمكن القول بأن سنة 2007، هي تاريخ اختيار المملكة المغربية الانتقال من مربع رد الفعل:
- إلى تقديم حل واقعي ينسجم مع المرجعيات الدولية؛
- إلى الانخراط في هندسة دينامية استباقية، أعادت ترتيب أولويات الملف دوليًا:
* فعلى المستوى الميدانيً: إطلاق أوراشًا تنموية استراتيجية في الأقاليم الجنوبية؛
* مؤسساتيًا: بتفعيلّ الجهوية المتقدمة وإصلاح وإحداث مؤسسات الوساطة
* دبلوماسيًا: بربح معركة الاعترافات، سواء عبر افتتاح عشرات القنصليات في العيون والداخلة، أو عبر تغير مواقف قوى وازنة: أمريكا، إسبانيا، ألمانيا، هولندا، ثم فرنسا مؤخرًا.
لكن الأهم من كل هذا هو أن المغرب لم يعُد فقط يرافع، بل أصبح يُقنع ويُعيد تشكيل سقف الحل داخل المنتظم الدولي.
المقاربة الحقوقية.. من الإنصاف الوطني إلى الترافع الأممي
ففي هذا المسار المتقدم، شكلت المقاربة الحقوقية رافعة أساسية لتعزيز حضور المغرب داخل آليات الأمم المتحدة.
هنا أتحدث عن حدثين مفصلين في هذا المسار:
* 2006، إصدار هيئة الإنصاف والمصالحة تقريرها الختامي، ووضعها توصيات جريئة للعدالة الانتقالية؛
* تأسيس اللجنتان الجهويتان للمجلس الوطني لحقوق الإنسان بالعيون والداخلة، للاشتغال ميدانيًا على قضايا التتبع والحماية والتواصل.
اليوم، تعكس تقارير الأمم المتحدة هذا المسار، من خلال إشادتها المتكررة بـ "التفاعل البنّاء للمغرب مع الآليات الأممية"، والمجهودات التنموية بالصحراء.
وإليكم هذه القراءة الحقوقية من قلب الآليات الأممية لتقريبنا من فهم التفاعل الأممي مع هذا الملف من الزاوية الحقوقية:
من موقعي كمراقبة لمنظومة حقوق الإنسان بجنيف، أُؤكد أن التفاعل الحقوقي الأممي مع ملف الصحراء المغربية لا يزال يعاني من تفاوت في المعالجة. ففي جلسات مجلس حقوق الإنسان، وفي تقارير المقررين الخواص والإجراءات الخاصة، يُلمس بوضوح الفرق في درجة التتبع والتدقيق بين ما تقوم به المملكة المغربية وما يجري في مخيمات تندوف.
فبينما تبادر المملكة إلى التعاون الكامل مع الآليات الأممية، وتُقدم تقاريرها الدورية، وتستقبل المقررين الأمميين، وتفسح المجال للمساءلة والتقييم، لا تزال الوضعية في المخيمات تُطرح ضمن هامش ضيق، رغم خطورة الانتهاكات التي تم توثيقها من قبل منظمات دولية وهيئات تحقيق مستقلة، بما في ذلك تقارير صادرة عن المفوضية السامية نفسها.
حقيقة أن بعض هذه الانتهاكات قد وجدت طريقها تدريجيًا إلى التقارير الأممية الرسمية وخصوصا تقارير بعض من هيئات المعاهدات أو حتى بعض الآليات المنشأة بموجب الميثاق.
كما أن بعض الأحداث المتسارعة التي شهدتها المخيمات حظيت بتوثيق بعض مزاعم انتهاكات حقوق الانسان التي تطال الساكنة هناك، داخل مراسلات الإجراءات الخاصة، وبلغ صداها إلى تقارير الأمين العام للأمم المتحدة. ومع ذلك، لا تزال هذه المعطيات جد متواضعة مقارنة بحجم ما يقع على مستوى مخيمات تندوف من انتهاكات واسعة النطاق؛ وضع يصطدم بجدار سياسي وقانوني، يتمثل في:
* تهرب الدولة الجزائرية من المسؤولية القانونية والسياسية عبر الدفع بأنها ليست المعنية المباشرة بالوضع في المخيمات؛
* قيود نظام الأمم المتحدة الذي لا يخول له مخاطبة مباشرة لقيادة "البوليساريو"، باعتبارها كيانًا غير معترف به أمميًا، ما يعمق إشكالية المساءلة؛ وخصوصا بتواجد
* تفويض غير رسمي من الجزائر للبوليساريو لتسيير المخيمات بشكل شبه كامل، دون أن تتحمل أي تبعات قانونية، سواء على المستوى القضائي أو الدبلوماسي أو العسكري، وهو ما تبرره الجزائر بعبارة "كرم الضيافة" التي لا تسندها أية قاعدة قانونية دولية؛
* اشتراطات جزائرية تقيّد مهام الإجراءات الخاصة، إذ بات من الملاحظ أن أغلب الآليات الخاصة التابعة لمجلس حقوق الإنسان، والتي زارت الجزائر مؤخرًا، لم تتمكن من دخول مخيمات تندوف رغم عديد التوصيات والدعوات الصريحة للوقوف على أوضاع حقوق الإنسان داخل هذه المخيمات، في تقارير وبيانات المنظمات غير الحكومية.
وهو ما يكشف عن خلل بنيوي يحدّ من قدرة منظومة الأمم المتحدة على الاضطلاع الكامل بولايَتها، خاصة حين تسمح الدول المضيفة بزيارات انتقائية مشروطة تنزع عن هذه الآليات استقلاليتها ومصداقيتها.
وهنا تكمن المعضلة الحقوقية الكبرى: إذ كيف يمكن لآليات أممية أن ترصد وتحاسب في منطقة تفتقر لأي إطار قانوني للمساءلة المباشرة؟ وكيف يمكن لمفوضية سامية أو مقرر خاص أن يحقق في انتهاكات في أرض تتحمل الدولة المضيفة المسؤولية الكاملة عنها، بينما تنكر هذه المسؤولية في كل مناسبة؟
وهكذا، تتحول بعض التوصيات الحقوقية الجادة إلى حبر على ورق، طالما أن الأمم المتحدة تستمر في نهج "البراغماتية الصامتة" حيال اشتراطات تعيق الوصول الميداني الحر للمناطق المعنية بالانتهاكات.
والمفارقة أن هذه الانتهاكات مثبتة في تقارير صادرة عن المفوضية نفسها وعن هيئات تحقيق مستقلة، لكنها لا تلقى الصدى اللازم داخل الخطاب الحقوقي الأممي، الذي لا يزال أسيرًا لمقاربة "الحياد الشكلي".
إذن الإشكال هنا لا يتعلق فقط بندرة المعطيات، بل بغياب الإرادة السياسية لدى بعض الأطراف الأممية لتجاوز منطق التوازن القائم على المعادلات الجيوسياسية، بدل الانتصار لقيم حقوق الإنسان.
مستجدات دولية تعيد رسم المشهد
فنحن اليوم نعيش لحظة جيواستراتيجية دقيقة أعادت رسم ملامح الملف:
* ديسمبر 2020، الاعتراف الأمريكي،
* 2022الاعتراف الإسباني،
* الموقفين الألماني والهولندي الداعمين.
* الموقف التاريخي لفرنسا.
هذه التحولات لا يمكن قراءتها فقط كمكاسب سياسية أو دبلوماسية ظرفية، بل كمؤشرات على تراجع جاذبية خطاب الانفصال في العواصم المؤثرة، ونقل الملف من منطق الصراع الثنائي الجامد، إلى دينامية دولية تبحث عن حل واقعي ومتوافق عليه.
غير أن هذه التحولات، ورغم أهميتها، لا تعني نهاية التحديات؛ إذ لا تزال بعض الأطراف تتشبث بمقاربات تعود إلى ما قبل نهاية الحرب الباردة، بينما تتحرك الديناميات الدولية نحو منطق الحلول البراغماتية المرتكزة على الواقعية السياسية، واحترام السيادة الوطنية، واستقرار الإقليم.
إزاء هذا الوضع فالوساطة الأممية تبقى بين تحدي محدودية الهيكلة وضرورة الإصلاح
فلقد شكلت إحاطة المبعوث الشخصي للأمين العام، السيد ستافان دي ميستورا، أمام مجلس الأمن في أبريل 2025، لحظة كاشفة.
فعلى الرغم من تناول الإحاطة لبعض التطورات الدبلوماسية، بما في ذلك تجديد الولايات المتحدة دعمها لمبادرة الحكم الذاتي، إلا أنها جاءت أقل من حجم التحولات الميدانية والدبلوماسية التي يعرفها الملف.
لقد بات واضحًا أن الوساطة الأممية التقليدية، بصيغتها القائمة على توازنات شكلية ولغة تقنية تواجه تحديات متزايدة في مواكبة التحولات المتسارعة التي يعرفها الملف، سواء على مستوى الديناميات الإقليمية أو مواقف عدد من القوى الدولية.
آفاق المسار الأممي
اليوم، يقف هذا المسار عند لحظة مفصلية تفرض تجاوز حالة الجمود الراهنة:
· فإما الاستمرار في مسار تفاوضي تقليدي يراوح مكانه، وبالتالي استمرار الهدر الزمني في انتظار طرف غير مستعد للحوار؛
* أو الانخراط في دينامية جديدة تُبنى فيها الحلول الواقعية بالشراكة مع الفاعلين الميدانيين، بما يضمن الاستقرار ويستوعب التحولات الجارية على الأرض.
وهنا يأتي دور المغرب، ليس فقط في الالتزام، بل في اقتراح نموذج الحل، وتقديم مبادرته كإطار مرن، قابل للنقاش والتطوير، انطلاقًا من أرضية مغربية صلبة ومتجذرة في الشرعية.
فالمبادرة المغربية أضحت الإطار العملي الذي يختبر مصداقية الأمم المتحدة
حيث تقتضي اللحظة الراهنة من الأمم المتحدة تجاوز ثلاثية الجمود:
* محدودية الحياد التقليدي،
* المقاربة غير الواقعية للاستفتاء،
* وعدم مواكبة الديناميات الجديدة.
فاستمرار الوساطة بنفس الأدوات قد يعيق التقدم نحو تسوية واقعية. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى أن تضطلع الأمم المتحدة بدور أكثر فاعلية، لا يقتصر على الوساطة التقنية، بل يمتد إلى ممارسة مسؤولية سياسية وأخلاقية.
فالتوصل إلى تسوية ناجحة لن يتم عبر الدوران في ذات الحلقة المفرغة من التقارير والإحاطات؛ بل الاعتراف بالحل القائم فعليًا في الصحراء المغربية، فهو وحده القادر على طي هذا الملف المفتعل، في انسجام مع القانون الدولي، وواقع التنمية، وكرامة الإنسان.
كما أن مواصلة النقاش في دوائر نيويورك وجنيف لا يمكن أن تنفصل عن الواقع الميداني، مما يستدعي تناغمًا أكبر بين المقاربة الحقوقية والجهود السياسية، على أساس من الإنصاف والواقعية، ووفقًا لمبادئ القانون الدولي.
فالمغرب بانتقاله من الدفاع إلى البناء، كرس واقع:
بإن قضية الصحراء المغربية لم تعُد مجرّد نزاع إقليمي، بل تحوّلت إلى حالة اختبار قدرة الأمم المتحدة على مواكبة تحوّلات معقدة بمنطق الإنصاف والفعالية، أمام نضج التجربة المغربية بتقديمها نموذجا للحكم الذاتي في إطار الوحدة الترابية.
والمفارقة اليوم أن المغرب، هو الذي يُطلب منه أن "يُقنع"، أن "يُبادر"، أن "يُقدّم"، باعتباره الطرف الوحيد الذي يضع على الطاولة مشروعاً متكاملاً، يستند إلى أسس دستورية، وتنموية، وحقوقية.
إن عنوان المرحلة، في تقديري، هو: من الدفاع إلى البناء…مغرب المبادرة داخل المسار الأممي.
ولعلّ هذا ما يفرض علينا الانتقال من التفاعل الظرفي إلى التموقع الاستراتيجي، من خلال رؤية متكاملة، تقوم على ثلاثية واضحة:
* دبلوماسية رسمية ووازنة، تجمع بين المرونة في الخطاب والحزم في المبادئ.
* تنمية ميدانية دامجة، تجعل من الصحراء فضاءً للابتكار الاجتماعي والاستثمار الاقتصادي المتجدد.
* ترافع نوعي ومتعدد الأطراف، يشمل الفاعلين المحليين، والمنتخبين، والمجتمع المدني، والباحثين، والبرلمانيين، وكل من يحمل صوتًا ذا مشروعية.
نحن نتفق ككل بأن تحصين المكتسبات لا يكون فقط عبر النصوص أو التصريحات، بل من خلال تراكم عملي وميداني، يؤكّد يوميًا أن الصحراء ليست فقط قضية حدود، بل قضية استقرار، وكرامة، وارتباط حضاري وإنساني عميق.