يوسف لهلالي: ما هو سر التحول الجدري للموقف الفرنسي من روسيا؟

يوسف لهلالي:  ما هو سر التحول الجدري للموقف الفرنسي من روسيا؟ يوسف لهلالي

تعقد العلاقات الفرنسية الروسية لا يمكن فهمها من خلال الحرب القائمة اليوم في أوكرانيا بل يمكن العودة حتى الى حرب نابليون الأول قبل قرنين لفهم هذا التداخل بين البلدين والذي لا يفهمه الاوربيون وباقي العالم، الذي يتمثل في الاعجاب والكراهية في نفس الوقت بين البلدين بلد الثورة الفرنسية وبلد الثورة البولشفية. وتحولت هذه العلاقة بسرعة في عهد الرئيس ايمانويل ماكرون من "عزيزي بوتين " الى عدم استبعاد نشر قوات فرنسية وغربية بأوكرانيا، بما يعني المواجهة العسكرية المباشرة بين روسيا والقوات الاوربية، وهو وضع تجنبه الاوربيون حتى الان بالامتناع عن المشاركة المباشرة من جهة وعدم إعطاء صواريخ يمكن استعمالها من طرف اوكرانيا في قصف عمق الأراضي الروسية بما فيها العاصمة موسكو. هذا التحول نحو المواجهة العسكرية يتعارض مع موقف ماكرون عندما وصل الى قصر الاليزيه سنه 2017 ودعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى قصر فيرساي ثم الى الإقامة الرئاسية على شاطئ البحر المتوسط.

 

فرنسا، في موقفها الجدري الذي عبر عنه الرئيس الفرنسي أكثر من مرة، لم تستبعد هذه المرحلة الجديدة وهو ما اثار جدلا ومعارضة سواء في الداخل الفرنسي او وسط الحلفاء الاوربيين خاصة من لدن المانيا الحليف والشريك الكلاسيكي لفرنسا داخل الاتحاد الأوربي. وهو ما حدا بالرئيس الفرنسي الى زيارة ببرلين في نفس الأسبوع، واللقاء بالزعيمين الألماني والبولندي. وبعد عودته من العاصمة الألمانية كرر نفس الموقف امام وسائل الاعلام حول المواجهة مع روسيا مؤكدا "ان فرنسا يمكنها ذلك". وهو ما يفسر باعتبار فرنسا قوة نووية ولها جيش بإمكانه التدخل خارج فرنسا.

هذا التحول الكبير في الموقف الفرنسي يمكن تفسيره لاعتبارات داخلية وكذلك اعتبارات خارجية، فيما يخص الاعتبارات الخارجية، هي مرتبطة بالخوف الكبير من انتصار روسيا في هذه الحرب واكتساحها لأوكرانيا، وهو ما عبر عنه ماكرون بالقول "إذا انتصرت روسيا، فستتغير حياة الفرنسيين. لن يعود لدينا أمن في أوروبا " في ظل التراجع الكبير لدعم الحلفاء الغربيين خاصة الدعم الأمريكي لأوكرانيا حيث يرفض الكونغريس حزمة المساعدات التي اقتراحا الرئيس الأميركي جو بايدن من اجل دعم أوكرانيا وجيشها الذي لم يعد يتوفر على ما يكفي من العدة العسكرية خاصة نقص حاد في الذخيرة من اجل مواجهة الجيش الروسي، الذي بدأت قوته في استعادة المبادرة بعد ان كان في موقف ضعف عند بداية هذه الحرب.

وتراجع الموقف الأمريكي خاصة الكونغريس والنواب الجمهوريين في دعم هذه الحرب، وهو دعم يمكن ان يتوقف بشكل نهائي في حالة انتصار دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة. جراء ذلك، ما زال جزء من مساعدات عسكرية أميركية بقيمة 60 مليار دولار عالقة في الكونغرس نظرا لمنع الجمهوريين اليمينيين اعتمادها من طرف البيت الأبيض، الذي قدم مساعدات عسكرية منفصلة بقيمة 300 مليون دولار أعلنها مؤخرا وهي مساعدات "غير كافية". الخوف والتوتر الأوربي يفسره أيضا هذا التذبذب والتردد الأمريكي في الدعم والتخوف من انتصار ترامب الذي أصبح المنافس الأساسي لبيدن. وربما هذا ما يفسر تحول الموقف الفرنسي وعدم استبعاد ماكرون فكرة إرسال قو ات برية إلى أوكرانيا، وقد أثارت تصريحاته المتكررة حول هذا الموضوع مشكلات بين حلفاء باريس، في مقد متهم ألمانيا، وقد قوبلت برفض شبه جماعي من المعارضة في فرنسا.  وهو الموقف الذي كرره الرئيس في القمة الاوربية الأخيرة التي جمعت كل من ألمانيا وفرنسا وبولندا والذين عبروا عن تضامنهم مع كييف في اجتماع عقد الجمعة الماضية في برلين ضم قادة الدول الثلاث في مسعى لتخطي خلافاتهم حول كيفية دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا.

وبعد هذه القمة التي كان الغرض منها تقريب وجهات النظر بين فرنسا وألمانيا حول التدخل وكذلك إعطاء أسلحة وصواريخ بعيدة المدى، ماكرون لم يتراجع عن موقفه، لكنه أشار إلى أن الحلفاء الغربيين لن يكونوا مبادرين للتصعيد.

وهو ما يعني ان الرئيس الفرنسي، في ظل التردد الأميركي، يريد بعث رسالة الى بوتين، الذي تم انتخابه في عهدة جديدة من طرف الروس، وهي انه حتى في حالة تخلي واشنطن عن هذه الحرب، فان فرنسا لن تتخلى عن أوكرانيا، ويريد وضع خطوط حمراء لموسكو، مفادها انه لن يتم التخلي عن أوكرانيا حتى ولو تطلب الامر مشاركة الجيش الفرنسي. وهذا الموقف اثار غضب روسيا، ففي مقابلة  أجراها بوتين هذا الأسبوع، مع  قناة "روسيا" مع  الرئيس الروسي بوتين قلل من أهمية الأمر، مشيرا إلى أن "رد فعل حاد كهذا وعاطفي" من ماكرون مرتبط بخسارة فرنسا نفوذها في دول إفريقيا حيث باتت روسيا تهيمن من خلال مجموعة المرتزقة "فاغنر" على هذه المنطقة.
على المستوى الداخلي موقف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون فجأ الطبقة السياسية، وطبعا عارضته المعارضة بشدة خاصة حزب اليمين المتطرف وزعيمته مارين لوبين التي تتوفر على 80 مقعدا بالبرلمان، وحزب فرنسا الابية لليسار بزعامة جون لوك ميلونشون، الذي يتوفر بدوره على 75 مقعدا بالجمعية الوطنية. لكن إذا كان اليسار يعارض التدخل الفرنسي في الحرب الروسية الاوكرانية، فان اليمين المتطرف، متهم من طرف الحزب الحاكم بالقرب من الحكم بموسكو، خاصة ان زعيمته سبق ان زارت موسكو والتقت الرئيس بوتين وحصلت على قرض من الأبناك الروسية لأجراء الانتخابات. هذه الوضعية السياسية الجديدة، وهي اعلان فرنسا إمكانية تدخلها في الحرب بأوكرانيا تحرج زعيمة اليمين المتطرف التي لها علاقات خاصة مع موسكو. خاصة انها تتقدم في الاستطلاعات للانتخابات الاوربية المقبلة، وهو موقف سوف يضعفها، خاصة انها تلعب على وثر الوطنية الفرنسيةـ لكن هذه الوضعية الجديدة، ستجعلها في نظرا القوميين عميلة للعدو.

هذه الوضعية الصعبة لليمين المتطرف هي ما تجعل جزء من المعارضة تتساءل حول موقف الرئيس الفرنسي، هو موقف جدي ام هو مجرد موقف تكتيكي لنزع النصر (حسب اخر الاستطلاعات) من اليمين المتطرف في الانتخابات الاوربية المقبلة التي أصبحت على الأبواب؟

كيفما كانت الخلفية السياسية لموقف الرئيس الفرنسي من روسيا، فان موقفه فاجأ حتى الحلفاء الاوربيين، وهو رسالة شديدة القوة الى موسكو، مفادها ان فرنسا وأروبا لن تتخلى عن أوكرانيا في حال انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من هذه الحرب، خاصة ان الرئيس الأمريكي جو بايدن أصبحت إمكانية إعادة انتخابه لعهدة ثانية صعبة المنال، ذلك بسبب موقفه من الحرب في غزة ودعمه المطلق لحكومة اليمين المتطرف بإسرائيل، وتخلي الناخبين العرب والمسلمين وكذلك الشباب الأمريكي عنه.