عبدالحميد العدّاسي: هفوةٌ

عبدالحميد العدّاسي: هفوةٌ عبدالحميد العدّاسي

تواثبوا جميعا يريدون ضربه وتأديبه، فقد أتى ما لم يخطرْ على بال أحد وقد وجب تأديبُه!.. رأوه يأتي جريمة لا تُغتفر؛ إذ قذّر عامدا بيت الله ﷻ، غير أنّ الحبيب ﷺ رشّد كما جاء في صحيح البخاريّ، واعترض: [دعوه وأهريقوا على بوله ذَنوبًا من ماء - أو سِجْلا من ماء -؛ فإنّما بُعثتم ميسّرين ولم تُبعثوا معسّرين.

ظلّت بَولةُ الأعرابيّ مرجِعًا يعود إليه الفقهاء كلّما اجتهدوا في باب الطّهارة وناقشوا مقادير الماء الطّهور المستعمل لإزالة النّجاسة، كما استعملها بعضُ الوُعّاظ في مجال حديثهم عن سمــــــاحة الحبيب ﷺ وعن عفوه ورفقه في تربية أصحابه والنّاس.

سأله وسمع إجابته البريئة (والذي بعثك بالحقّ، ما ظننتُ إلّا أنّه صعيد من الصَّعُداتِ فبِلْتُ فيه)، فقال له ﷺ فيما اُتُّفِق على صحّته: [إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البَول والقذر، إنّما هي لذكر الله والصّلاة وقراءة القرآن].

لم تكن البَولةُ تلك مجرّدَ حادثة عابرةٍ قد يستشهد بها بعضٌ من المتأخّرين على غرابة سلوك الأعراب ناسين أو متناسين ما قدّمه هؤلاء الكرام للمسلمين من خدمات جليلة بما سألوا عندما تردّد النّاسُ وبما تصرّفوا بعفويّة عندما وازن النّاسُ حتّى أحجموا، ولكنّها كانت مجالَ درسٍ بليغٍ في كيفيّة التّعليم والتّربيّة وفي تقديم الرّفق وسعة الصّدر والحرص على سلامة الصّفّ وجمع الشّمل وإصلاح البين، وجاءت تدحض كذلك ما يردّد بعض النّاس باستعلاء لا يخفى "لا يُعذر الجاهل بجهله"!.. والحال أنّ الجاهلَ يُعلَّمُ حتّى يعلَم ويُفَقَّه حتّى يفقَه ويُعذَرُ حتّى يستفرغ العالِمُ المعلِّمُ كلّ الجهد في تعليمه وتربيته وترقيته... فما قام به النّبيّ ﷺ يُبطل هذه المقولات المتخفّفة من المسؤوليّة المائلة إلى لوم الآخر وتجريمه. غير أنّ الأعرابيّ صاحب الفعلة أو غيرَه ممّن جهل لن يُعذر بعد العِلمِ، ولهذا قال الشّافعي رحمه الله: (لو عُذر الجاهل، لأجل جهله لكان الجهل خيرا من العلم؛ إذ كان يحطّ عن العبد أعباء التّكليف ويريح قلبه من ضروب التّعنيف، فلا حجّة للعبد في جهله بالحكم بعد التّبليغ والتّمكين، لئلا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرّسل)، وانظروا إلى قوله بعد التّبليغ والتّمكين فهو شرط لازم. وقال السّيوطي (ت 911هـ) رحمه الله قريبا من ذلك: (كلّ من جهل تحريم شيء ممّا يشترك فيه غالب النّاس، لم يُقبل عُذرُه، إلّا أن يكون قريبَ عهدٍ بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثلُ تحريم الزّنا، والقتلِ، والسّرقةِ والخمرِ، والكلامِ في الصّلاةِ، والأكلِ في الصّومِ...)، وانظروا إلى قوله يشترك فيه غالبُ النّاس لتعلموا أنّه بات معروفا... فالعذرُ قبل العلم وعدم العذر بعد العلم وإنّ ما شاع في النّاس قد علمه النّاس... ثمّ انظروا أوّلا وآخرا في قوله ﷺ: [فإنّما بُعثتم ميسّرين ولم تُبعثوا معسّرين] وتفقّهوا، فقد بُعثتم ببعثته ﷺ، وهو ما يؤبّد المهمّة طالما ظلّ من أصلابكم من يعبد الله ﷻ!..  والله من وراء القصد.