رحل إلى دار الفناء الأديب والروائي السوري الكبير حيدر حيدر، وبهذا الحدث المؤلم يكون الفكر الحر قد فقد كاتبا متميزا وقلما مشاكسا نافذا. غادرنا حيدر حيدر عن عمر يناهز 87 عاما وإنتاج فكري كبير ومتنوع، وتعد روايته "وليمة لأعشاب البحر" من أشهر أعماله والتي أثارت جدلاً كثيفاً بل ومنعت في بعض الدول العربية مما ساهم ذلك في انتشارها أكثر ويعتبرها النقاد من أشهر الروايات العربية من خلال ما أثارته من لغط وجدل.
صدرت رواية "وليمة لأعشاب البحر" عام 1983 في سوريا. تدور أحداثها حول مناضل شيوعي عراقي هرب إلى الجزائر، ليلتقي بمناضلة قديمة من زمن الثورة الجزائريّة وشاهدة على تحولاتها ومآلاتها.
يتفق معظم النقاد على جودتها الأدبية الفائقة، لم تثر الجدل من نواحي نقديّة أو فنيّة، بل أثارت موجات عالية من ردود الأفعال على خلفية حملة التكفير التي طالتها وطالت صاحبها في مصر في العام 2000. بعدما قامت سلسلة "آفاق الكتابة" التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، تحت رئاسة الأديب الراحل إبراهيم أصلان الذي تحمس بإعادة نشرها، لكن آلة التكفير لم تتوقف حيث نظمت حملة واسعة التي طالت الرواية وكاتبها إلاّ أنها انتشرت في النهاية بشكل كبير وسمح بعد ذلك بسنوات بنشرها في مختلف دول العالم.
وليمة لأعشاب البحر "نشيد الموت"، الرواية التي أدخلتْ شريحةً منَ المثقفين العرب في أزمة كبيرة، كما أدخلت الهيئة المصرية للكتاب أنداك فِي معركةٍ مع الإسلام السياسي، الذي انتفض وتعبأ ضد الرواية وكاتبها .
في المتن:
ليست “وليمة لأعشاب البحر” رواية تقليدية متعاقبة الأحداث، إذْ أنَّها لا ترتجي خطّاً دراميّاً تصاعديّاً، ولا تَتْتَكِيءُ على بداية مشوقة ليترّقب القارئ خاتمةً أو يطارد نهاية ما، بَل هي دون ذلك جميعاً بل كتابة تنهل من حساسية إبداعية جديدة ، التي تجعل من النهاية والبداية مسألةٌ لا تعني المؤلف كما تتصور مدرسة النقد الجديد ، فهو يتجاوزُ بكثيرٍ من الحرفيّة عاملَ الزمن، حينَما يسردُ مَا قد صارَ تاريخاً مستودعاً لديه -على الرغم من تعدّده وعدم أحاديته- فهو جزءٌ من تاريخه الإنساني كفرد، ودمٌ في ذاكرته، تلك الذاكرةُ التي قدَرُ الكاتب المبدع أنْ تكونَ ذاكرةً حمّالة أوجه، ذاكرة ليست تُعاني النسيان في كثيرٍ من منعطفاتها، التي يُحسنُ المبدعُ، -والمبدعُ فقط- أنْ لا يدعها تمرّ سلاماً.
إن رواية "وليمة لأعشاب البحر" من أفضل الروايات العربية المعاصرة على الإطلاق ومن يتهمونها بالكفر هم مجموعة من جماعات الضغط السياسي الذين يتقنعون تحت أقنعة دينية ويتولون إرهاب المثقفين والمبدعين ويحاربون كل من يدافع عن الدولة المدنية، للإشارة أنه حين يتم قراءة العمل الإبداعي بخلفية دينية تكون النتيجة مغلوطة لأن القراءة الأدبية تتم على طريقة (لا تقربوا الصلاة) أي أنه يتم اقتطاع الجمل والعبارات من سياقها ويتم توظيفها وفق ما يخدم مصالح الجماعة التي تنتصر للسياسة والإديولوجيا .
بداية الحكاية :
إعادة طبع الرواية من جديد في مصر عام 2000 كان سببا في إشعال حملة ضد المنجز الروائي حيث أشعلت العديد من المقالات ردود فعل واسعة وهيجت مظاهرات كبيرة في جامعة الأزهر وخلقت أزمة سياسية فعلية في مصر خلال تلك اللحظة التاريخية . كانت جامعة الأزهر في قلب تلك المواجهة مع الرواية، فقد انتقد مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف في تقرير له العمل، معتبرًا أن فيه "خروج على الآداب العامة، وأنه ضد المقدسات الدينية". كما أشارت إحدى التقارير الصادرة عن المجمع أن "الرواية تُحرّض على الخروج عن الشريعة الإسلامية، وخرجت عن الآداب العامة خروجًا فادحًا بالدعوة إلى الجنس غير المشروع" بحسب تعبيره.
رسالة النقد وبلاغته:
لابد أن نذكر المتلقي أن تقييم الأعمال الإبداعية عامة، والروائية على وجه الخصوص يعتمد على إدراك طبيعة الرواية، بوصفها تتمثل في إبداع عالم فني متخيل، يحاكي على قوانينه العالم الكبير، اعتمادًا على تكوين شخصيات متخيلة، تنسب إليها أقوال وأفعال خاصة، ومواقف مماثلة لما يحدث في الحياة بشكل أو آخر، وكل العبارات التي ترد في الأعمال الإبداعية لا يمكن أن تُفهم وجهها الصحيح منفصلة عن سياقها، ولا عن طبيعة الشخصيات التي تنطق بها، ولا التعليقات التي ترد عليها من شخصيات أخرى، وأي اجتزاء لعبارة من عمل روائي وفهمها خارج سياقها وبعيدًا عن شخصية الناطق بها ورد المستمع لها، فهو فهم غير سليم يفتقد لرؤية الأدبية والحس الإبداعي المتميز ، ذلك أن وظيفة الأدب الروائي هي نقد الحياة، من خلال الشخوص المتخيلة باعتبار أن الأدب وسيلة مثلى لنقل تجارب البعض إلى الآخرين و تمكينهم من الاطلاع عليها و الاستفادة منها، كما أنه من ركائز الأدب أنه يصور ما في نفس الإنسان من فكر و عواطف و حوادث.. لها أهميتها و لها مغزاها ثم ينتقل كل هذا إلى نفس القارئ فيُعينه على فهم الحياة و يوقد مشاعره السامية القوية و يُوجه نفسه بذلك إلى الغايات الإنسانية النبيلة. وتمثل الأحداث والوقائع بحبكة تخييلية تنتصر للفن والجمال وتعمل جاهدة على تعميق الوعي الجمالي بها، وهذا يقتضى المحافظة على حرية التعبير و التخييل ،وأية محاولة لانتقاص حرية التخيل أو إضعاف الصدق تؤدي إلى إضرار بالوظيفة الأدبية والجمالية للنص .
وبذلك يكون الكاتب الكبير حيدر حيدر قد دشن عمرا كبيرا وتاريخا مجيدا دخله من بابه الواسع أما منتقدوه وقامعي حرية التعبير خرجوا من الباب الخلفي الذي يسهر على التلصص على مشاعر الناس ومعتقداتهم لروح حيدر حيدر الرحمة والخلود. .