أحبّ البقاء في البيت وأفضّله على الخروج، لا سيّما إذا ما لم يكن هناك دافع إيجابيّ، مثل قضاء بعض الواجبات أو ملاقاة النّاس والاطّلاع على أحوالهم وربّما السّعي في حاجاتهم، أوأداء الصّلاة جماعة في المسجد، أو التّريّض الضّروري للِيَاقةٍ بات يترصّدها عن كثبٍ تقدّمُ السّنّ. وقد زاد من إقبالي على هوايتي تلكما لاحظتُ على نفسي ممّا لا أحبُّ لنفسي، فإنّي كلّما غادرت البيت وتجوّلت في الشّارع الدّانماركيّ
وعايشت الأحداث الدّائرة أكثرت - دون رغبة منّي - من التّلفّظ بكلمة "متخلّف"، أُلحِقُها بكلّ مُرتكبِ سلوكٍ يبدو عليه حسب رأيي عدم الانسجام مع البيئة!.
صاحبوني إن شئتم أقصّ عليكم بعضًا ممّا يعترضني في خرجاتي، ولا تجاملوني في الحقّ بل نبّهوني إن لم يكن الذي رأيت من التّخلّف!..
فهذا الذي خرج من بلده الأصلي بشقّ الأنفس فارّا بنفسه وأهله لا يحمل من متاعه أو متاع بيته إلّا ما ستر به نفسه، ثمّ ساح في أرض الله يحفظه الله وييسّر له من أسباب العيش في أرضه، حتّى إذا استقرّ نسِي حاله تلك ونسِي قضيّته التي أخرجته من بلده والظّالم الذي كاد يفتنه حتّى في دينه، ثمّ تفرّغ لأهل البلاد التي آوته وأمّنته، يُبدي لهم من عيوبه ما يزهّدهم في صحبته ويجعل النّدم يأكلهم؛ إذ سمحوا له باللجوء إليهم، فقد انطلق بغياب حكمة يشيع أنّهم كفّارٌ يجب الكفرُ بهم وبقوانينهم وتعاليمهم. يسفّه طرق عيشهم فيعتزلهم. يرفضهم ويرفض منهم كلّ شيء إلّا ما كان من مساعداتِهم. يحرّم ما أحلّوا بكفرهم لأمور دنياهم ويحلّل ما أحلّ لنفسه دون نظر ودون خوف من ردود أفعالهم أو نفاد صبرهم. يرفض ديمقراطيتهم دون أن يمنعه رفضُه ابتزازها واستعمال نصوصها في مقاومتهم. يعبّر عمّا في رأسه دون اعتبار لما قد تجنيه على غيره من المسلمين بناتُ رأسه. لا ينتبه إلى أنّ القوانين المتلاحقة إنّما تُصاغ في هذه البلاد مرتكزة على هفوات أمثاله من النّاس مستثمرة تجاوزاتهم حدود ما سمحت به القوانين السّالفة الخادمة له ولغيره من الوافدين...، ما هو عندي إلّا متخلّف!.
وهذا الذي ينزع كاتم صوت سيارته (العادم = échappement) فينطلق بها مُحدِثا ضجيجا لا تتحمّله الآذان السّليمة ناهيك عن تلك المُصابة... أو هذا الذي يطلق صوت مسجّله دون اعتبار لأحد وقد اختار تفاهات أشرطته الصّاخبة المحدّثة بعالم فرّت منه المروءة في بلده الأصليّ... أو هذا الذي قامر على الإشارة فلم يتوقّف إلّا وقد داس على خطوط المشاة أصحاب الأولويّة والضّوء الأخضر واعتلاها؛ فلا هم مرّوا مرتاحين آمنين ولا هو استحىى فتراجع كي يجتنب ملاحظاتِهم وربّما سبابَهم الخفيَّ و"لعنَهم" الظّروف التي سمحت لمثله بمنعهم في بلدهم من أن يكونوا متّمتّعين بما يبيحه لهم قانونهم المنظّم لحياة الرّفاه في بلدهم، أو هذا الذي استعمل براعته في قيادة الدرّاجة النّاريّة الضّخمة ليتحدّى بها شرطة العاصمة ويرهقها في ملاحقته حتّى يثير غيرة العوامّ على شرطتهم...، ما هو عندي إلّا متخلّف!..
وهذا الذي فاجأ جنبك وربّما فجعك، فقطع عليك بمقدّمة سيّارته الفخمة الآخذة من تكبّره وبلادته وقلّة أدبه وانعدام حيائه، مواصلة سيرك على رصيفٍ مُخصّصٍ لسيرك، بعد أنتأكّد من أنّك من صنفه،وقد كشفك لونُك وشعرُك وهيأتُك، وقد رأيته في غير موضع كيف يتودّد لغيرك من أهل البلاد ويصغر بابتسامته المصطنعة أمامهم وأمام كلابهم، وقد رمقوه بنظرة تُقرئه عدم الاحترام لمّا حاول معهم مرّة ما اقترف معك مرارا...، ما هو عندي إلّا متخلّف!..
وهذا الذي أرخى سراويله وخرّق لركبتيه خروقا ما لبثت أن فقدت حياءها فتوسّعت ثمّ سعت تستكشف للنّاس فخذيه، أو هذا الذي ضيّق قميصه المعصفر المستدعي من التّاريخ هيآتِ قوم لوط، وبرم عضلاتِه وأبرزها، وأدلى بعِقده على صدره وتناسى عَقده مع أصله، وحلق رأسه فأحدث فيه شأنا كشأن زراعة المرتفعات، وزرع لسانه وحاجبيه مسامير تؤكّد تبعيّته ووضاعته، وربّما وضع حلقة في أنفه تؤكّد انقياده، ونسي لغة قومه ولم يُجِد لغة بلد إقامته...، ما هو عندي إلّا متخلّف!...
وهذا الذي ترك أهله في العراء يتهدّدهم الطّقس بحرارته وزمهريره ويلتهمهم الجوع دون رحمة ويرمي غير آبه بهياكلهم إلى المحاربين العُتاةِ، يُلقمون بها حُجُراتِ بنادقهم، فبات يلبس لباس المترَفين، ويركب في المناسبات سيّارة الليموزين، ويمشي في النّاس مشية المختالين المتكبّرين... ما هو عندي إلّا كافر بنعمة ربّه، متخلّف!...
وهذه التي وصلت البلاد متحجّبة محتشمة ثمّ "تحضّرت" فتمرّست فتطاولت فتمرّدت فخلعت الحياء عن لباسها حتّى بات مجرّد سراويلات واصفة تحرّض عليها الأعين المؤمنة والفاسقة، ثمّ تمادت فقتلت حياءها، فخاصمت فداست فعقرت نسبها، فبدّلت فاندمجت اندماجا لم يُبقِ لأصلها ولا لعِرقها ولا لدينها أثرا...، ما هي عندي إلّا متخلّفة!
وهذا الذي طُرد من أرضه ثمّ لم يبذل الجهد في تربية أبنائه على معرفة عدوِّهم عدوِّه، ولم يرغّبهم في حبّ لغة قومهم ولم يحفّزهم على إبغاض سفاسف الأمور والتّعلّق بالمقابل بما يعين على الثّبات أمام عظائمها، ولم يدرّبهم على التّخطيط من أجل الرّجوع إلى الدّيار، ولم يحسّسهم بما يعاني أهلهم في تلك الدّيار..، ما هو عندي إلّا متخلّف!
نعم! سلوك لم يُعجبني حتّى رأيتُه متخلّفا، حتّى منحتُ صفته للّذي يأتيه... وغيرُه في
المجتمع ممّا يماثله أو يتجاوزه كثير، كهؤلاء الذين لبّست عليهم الدّنيا معنى الحياة، فأصبحوا يغالون في المهور إذا زوّجوا، ويبالغون في الصّرف إذا جهّزوا، ويعقرون الحشمة أو يذبحون الحياء إذا احتفلوا، ويتفنّنون في الجريمة إذا عربدوا، ويتنافسون في الإفساد إذا أفسدوا...
لمّا انطلقت فضائيّة الجزيرة هذه الأيّام في الحديث عن الحرب الطّاحنة الدّائرة بين روسيا الطّاغية وأختِها الشّقيقة أكرانيا، ابنةِ أبيها الاتّحادِ السّوفياتيّ المنحلِّ سنة 1990، كنت أتابع ما يجري، فأعمد كلمّا شاهدتُ واستمعتُ إلىى هدمِ فقراتِ نصّي أعلاه، فقرة فقرة. رأيت بالمقارنة ما تحدّثتُ عنه أمورًا عاديّة قد بشّعَتْها ظُروفٌ أعيشُها أو مثاليّةٌ أنشُدُها. فإنّ النّاس بالجوار يتقاتلون منذ 24 فيفري 2022 بوحشيّة تُشعِر الوحوش الضّارية الآكلُ قويُّها ضعيفَها بالإسراف في اللّين... يتقاتلون بمعدّات القويّ الذي نسِي ربّه جلّ وعلا، فأبدع في الإهلاك وأسرف في البشاعة، فإنّك لن تجد ما حييتَ مَن هو أكثرُ إضرارا بالوُجود من صاحبِ قوّةٍ نبتَت من نسيانٍ وجهلٍ، ولن تجد بالتّالي متخلّفا مثله.
قسّمتْ الحربُ غيرَ المقسَّم (فهم كلٌّ على الإسلام والمسلمين) فبات النّاس تحت وطأة عناصر التّقسيم السّاعية إلى إثبات الذّات بإفناء الذّات، أشلاءَ تشهد على الجريمة المرتكبة أو لاجئين قد يَشعُرون ولو بمقدارٍ بَسيط بمعاناة اللّاجئين الذين افترشوا الذلّ وتغطّوا بالمنّ والاستصغار.
باتت روسيا اليوم بشعة وقد كانت بالأمس القريب، وهي تعربد في بلادنا تشربُ دماءنا وتسخر من رسومِ "رجالٍ" وضعناهم بِهَوَانِنا فوق جماجمنا، حبيبةَ الجميع.
كانت أمريكا ولازالت صديقةروسيا ومستشارتها في سوريا وليبيا وتونس وفي غيرها من البلاد
المُستَهلَكة، فباتتا اليوم غريمتين - أو هكذا يبدو للنّاس - تتنافسان في التّسلّح حتّى تُجبر إحداهما الأخرى على الاعتراف لها ميدانيّا بالتّفوّق.
ليس في هذه الحرب أكثر خبثا وساديّة من الغرب، وليس فيها أكثر بلاهة من صاحب الأرض الدّائرة عليها، وليس فيها أكثر مضاء وإصرارا على الإثم وأكثر إجرامًا من حاكم روسيا ومالِكها.
ثمّ سار اللّاجؤون باتّجاه مدن الغرب، يعوّمون بلونهم الأشقر جحافل اللّاجئين الذين وصلوا مقاصدَهم قبل شهور بل قبل سنوات، ويعيدون ترتيبهم في الصّفّ؛ إذ ليس الأبيض كالأسود وليس ذو الشّعر النّاعم كذي المجعّد وليس المتحرّر كالمتديّن وليس المتديّن كالمسلم.
تسابق "الخيّرون" في إكرامهم والعناية بهم، يفتحون لهم فضاءاتهم ودورَهم ويتضامنون معهم حتّى يحمل الرّياضيّون في شتّى الملاعب راياتِهم وشاراتهم دون خجل من محمّد أبو تريكة المعاقَب بسبب الكشف وقت احتفاله بالنّصر في الميدان الأفريقيّ عن قميص يلامس صدره ويبدي ما في صدره من حبّ عميق لفلسطينيّي غزّة المحاصرة التي نشط الفسفور الأبيض بمساندة الأمريكان رعاة البقر في إفنائها وإفناء من فيها!
لن تجد تخلّفا أكثر وضوحا ممّا أظهرته هذه الحرب، فقد كشفت بالتّفصيل المخجل ما حاولت حرب يوغسلافيا السّابقة من قبلُ التّستّر عليه. لقد عادلت جرائمُ الصّرب وقتها أو هي جاوزت جرائمَ الرّوس، غير أنّ هُويّةَ المستهدفِ قلّلت من وقع تلكم الجرائم وهوّنت من آثارها وقلّلت من تداعي الأبطال الحريصين اليوم على تسليح أكرانيا وتحقيق تفوّقها أو صمودها أمام الخطر الدّاهم، فلم يهتدوا وقتها إلّا إلى التّضييق على القتيل البُسنة والهرسك، خصمِهم، وإبقائه إلى يوم النّاس هذا تحت المراقبة "الإنسانيّة" المتربّصة بالإنسانيّة وبالمسلمين خاصّة!
نحن نأبى الضّيم ونُبغض الظُّلم ولا نرضى لأنفسنا حاكما كالذي اليومَ يحكُمنا ولا نقبل في صفوفنا - وقد نزلنا لاجئين في دور "التّقدّميّين" - صاحب سلوكٍ متخلّف يجعل الآخر ينتقصنا، غير أنّنا لم نقترف في حقّ النّاس ما اقترف في حقّنا "التّقدّميون" الحاقدون المتخلّفون، باسم حقوق الإنسان وباسم "الإنسانيّة" المائلة الحريصة على استنقاص إنسانيّتنا! وإنّا لو غبطنا هذا الغرب (نعني حكّامه دون غيرهم) لغبطناهم على القدر الكبير من التّناصر والتّآزر والتّعاون القائم بينهم، وكيف يأتونه رغم انحراف مقاصدهم واختلاف لغاتهم وأديانهم {وَالذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۖ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِے اِ۬لْأَرْضِ وَفَسَادٞ كَبِيرٌ} (الأنفال: 74)!
ثمّ إنّه لا يعذرنا تخلّفهم ووحشيتهم، بل لا بدّ لنا من بذل الوسع كي نتميّز عنهم بأخلاقنا، فنجتنب ما جاء ذكره أعلاه وغيره من السّلوك القادح في السّمت، كما علينا أن نعمل على استذكار ماضيا كنّا فيه سادة ومعلّمين فنأخذ منه ونضيف إليه ما يؤمّن تفوّقنا حضاريّا ويضمن عدم الوقوع في تقدّم مادّي صرف كشف تخلّفهم...