قال مولاي عبد الحكيم الزاوي، وهو أستاذ باحث في علم الإجتماع، إن ما يحصل في الإدارة المغربية من نفور لدى مرتفقيها مسألة تتعلق بدرجة أولى بالمسؤولية السياسية للنّخب السياسية التي تسير المدن المغربية، سواء كانت نخبا منتخبة، أو نخبا مُعينة، إذ تعود الرأي العام الوطني على سياسة ردود الأفعال، وعلى التّدخلات المناسباتية من أجل معالجة الإختلالات المجالية.
وأوضح في حوار مع أسبوعية “الوطن الآن” و "أنفاس بريس"، أنّ مردّ ذلك من نكوص يعود إلى تراجع منسوب الثّقة في مدبري الشأن المحلي والوطني”؟ وفي ما يلي نص الحوار:
حينما يحلّ الملك بمدينة ما من مدن المغرب إلا وتتحرك المجالس والإدارات والشركات فيتم تبليط الشوارع ويتم استنباث الأشجار وتلميع الواجهات وتصلح الحفر... فأين كانت هاته الإدارات طيلة هذه المدة ولم هذا التناقض. فهل نحن بحاجة إلى أن يزور الملك ويتفقد كلّ مدن البلاد ليتحرّك المسؤولون؟.
قبل التطرق إلى جوهر سؤالك وجب الإنطلاق من ملاحظة منهجية؛ إذا وجب الإقرار بأن أزمة الوسط الحضري في المغرب مُركّبة وبالغة التعقيد وتجرُّ وراءها اختلالات هيكيلية في التدبير؛ فإن أشكال التدخل والمعالجة هي بالاستتباع مُركبة ومعقدة تقتضي تبني سياسات إلتقائية تعمد إلى إشراك جل الفاعلين والمتدخلين ضمن تصورات شمولية مندمجة قادرة على تصحيح الاختلالات المجالية. طيب. هل بمقدور النخب الحضرية أن تُعالج تراكمات أزمة المدينة المغربية؟ الجواب سيكون بالنفي، أولا، لأننا أمام نخب غير مرتبطة ارتباطا عضويا بنسيج المدينة، وثانيا، لوجود تدافعات مصلحية تُغلب الحسابات السياسوية الضيقة على حساب المصلحة العامة. الحاصل، تشكلت اليوم قناعة لدى المغاربة، بمجرد ما يبدأ تبليط الشوارع أو استنبات الأشجار وتلميع الواجهات...فالأمر جلل، وثمة زيارة ملكية قريبة يمكن أن تَجر معها غضبة ملكية على مسؤولي المدينة. والحال، لا يزال الهاجس الأمني يطغى على أشكال التدخل في جُلَّ المدن المغربية، مثلما لا تزال نظرية المركز والهامش فاعلة في التخطيط حسب ما تنتجه المدينة من خيرات وتوفره من ثروات. من جانب آخر، تعاني المدن المغربية من قلة المبادرات المبدعة، ومن محدودية الموارد المالية التي يمكن أن ترقى بعيش السكان. وأحيانا، قد ترتبط التهيئة الحضرية بإكراهات التسيير الإداري والمالي، وبمحدودية التدخلات وتواضع الإختيارات وقلة المبادرات الاقتصادية والاجتماعية وغياب الفاعلية...على المستوى القانوني، نحن أمام ترسانة من التشريعات القانونية حاولت أن ترتقي بوضع المدينة من قبيل الميثاق الجماعي الصادر سنة 1976، وتجربة وحدة المدينة سنة 2002 وقانون 79.00 المعدل لقانون 78.00 المتعلق بتنظيم الجماعات الحضرية والقروية لكن دون أن تجيب عن أسئلة التنمية في المغرب. لا يجب أن نغفل عن جزئية مهمة في هذا الصدد، أن أزمة المدينة المغربية هي نتاج مسار تاريخي عميق في الزمن، تجد تفسيرها في طريقة تدبير مؤسسة الحماية الفرنسية التي أنتجت سياسة حضرية تمييزية قائمة على المدن المنتجة والمدن الهامشية، الأولى تهيأت لها شروط الاقلاع والتطور؛ والثانية تُركت ضحية لأزماتها البنيوية. تبعا لذلك، وجب على مدبري الشأن الحضري إيجاد الموازنة بين الحاجيات والإمكانات المتاحة وفق أهداف محددة بدقّة قابلة على التنزيل في مخططات قطاعية.
وبم تفسر هذا الجفاء بين الإدارة المغربية والمواطن، إذ من المفروض أن تكون الإدارة في خدمة المواطن يوميا وبشكل مستمرّ لا مناسباتيا؟.
مسألة الجفاء بين الإدارة المغربية والمواطن نتاج مسار إداري جد معقد، قد يرتبط أحيانا بسلوكيات بعض الموظفين، وأحيانا، بتعدد المتدخلين في التدبير الإداري من مجالس جماعية، عمالات، ولايات، وكالات حضرية، مديريات التعمير...”، ومن جهة ثالثة بتداخل الاختصاصات وضعف التنسيق وغياب الإلتقائية، وتضخم المساطر الإدارية وتعقيدات الإدارة وضعف الحكامة...حقيقة، المدينة المغربية وريثة عملية انتقال قيصري، من مجالات ضاحوية إلى مجالات حضرية دون استكمال شروط الولادة الطبيعية؛ وهذه الوراثة دائما ما تطرح معها مشكل كفاءة النخب الإدارية وقدرتها على تنزيل المخططات التنموية. للأسف، معظم الخدمات الإدارية تتم في إطار نسيج العلاقات الاجتماعية، وما يرافقها من محسوبية وزبونية وولاءات...منذ الحماية الأجنبية، توسعت الحواضر المغربية على حساب الأراضي الفلاحية والغابوية وبرزت حركية حضرية Mobilité Urbain اتسعت فيها الفوارق الإجتماعية والتمايزات المجالية بين مجالات مركزية تحظى بالعناية والتتبع ومجالات تلقائية غير مراقبة تعيث فيها أشكال الفوضى والتدبير العشوائي. أي هناك، مشاهد من الوفرة والرخاء والتنظيم تقابلها مشاهد من الفقر والهشاشة والاقصاء... طبيعي أن تعكس الإدارة المغربية جزءا من هذه الصراعات الثقافية. هناك قول شائع عند المختصين يقول: “في الإدارة ليس هناك نموذج”، ومعنى ذلك أن الخصوصية المحلية هي التي تصنع النموذج؛ النموذج ههنا ذلك الذي يجب أن يقتلع الفرد المغربي من قيوده الذهنية، ويعزّز قيم الكفاءة والموهبة والإبداع، ويُفعّل الآليات الثلاثة: آلية الشفافية، آلية الاستحقاق، وآلية المحاسبة.
لكن، ما الذي يجعل المواطن ينفر من الإدارة المغربية، بل أحيانا من وجودها رغم أنها وجدت لتقديم خدماتها العمومية لأجله؟
مسألة النفور من الإدارة المغربية سلوك نفسي يفسر بتراكم الإحباطات الفردية والجماعية التي يتعرض لها مرتفقو المؤسسات الإدارية. تعوَّد جل المرتفقون الذين يفدون إلى الإدارة البحث عن وسيط، أو قرابة، أو علاقة من أجل قضاء مصلحة. وهذا سلوك اعتيادي لدى المغاربة، ولا يجب أن نعتبره نتاج لحظة ظرفية، بل يجد جذوره في علاقة المغاربة مع المؤسسات السّياسية في تاريخهم القريب أو البعيد القائمة على معادلة القرب أو البعد من دار المخزن والتّطبيع مع السلوكيات التي تُمجد القرب من مركز القرار من أجل قضاء خدمة معينة. المغربي يمجد الشخصية التي لا تصطف في الطوابير، أو التي تجري مكالمة هاتفية مع مسؤول إداري، أو الذي يعرض رشوة لقضاء مصلحة...مثل هذه السلوكيات لا تبني مجتمع المواطنة القائم على الحقوق والواجبات. وجب في البداية التساؤل حول ماهية المدينة المغربية اليوم، هل حقيقة لدينا مدن بالتوصيف الجغرافي والتقني للمدينة، مدن بلا روح، بلا نفس وبلا هوية...المدينة وفق ما نجده في الدول المتقدمة فضاء لخلق الديموقراطية وصناعة الجمال والذوق والمصالحة مع العمق التاريخي، وأيضا مركز لصناعة القرار...وهي أيضا، فضاء مجالي لتحقيق النمو والتدافع الاقتصادي والاجتماعي والإنتاج والمنافسة والاندماج...أغلب الحواضر المغربية كانت عبارة عن مراكز قروية، وانتقلت بقرارات إدارية إلى وضعية المدن. ما يجعل هناك ترسبات قروية تتعايش داخل الفضاء الجديد، حتى على مستوى السلوك الإجتماعي حيث تبرز الإنتماءات القبلية داخل المدينة، كل المدن المغربية تجر وراءها ثقلا تاريخيا عميقا تسعى من خلاله إلى التخلص من الرواسب القبلية وبناء ثقافة المدينة. في المدينة الإنسان ينتمي إلى المجال وليس إلى القبيلة أو الزاوية...وقد نصادف لحظة الدخول إلى أي مدينة مغربية يافطات تحمل عناوين إعادة تأهيل المدينة، لكن هل نجحنا في تأهيل الانسان؟.
في كل المدن المغربية قد تعثر على تناقضات مجالية غير مفهومة: أحياء عشوائية من حيث التعمير، أنشطة غير مهيكلة، فوارق اجتماعية مع استفحال ظواهر التسول والفقر والهشاشة والإقصاء ومعدلات الجريمة، زيادة على نقص في البنيات التحتية والخدمات العمومية وأزمة النقل الحضري مع انتشار السكن الصفيحي والمضاربات العقارية. أضف إلى ذلك تراكم النفايات وتلوث الهواء ونقص في المساحات الخضراء، وتضخم معدلات الهجرة القروية بفعل عامل الجفاف، مع النمو البطيء للاقتصاد وضعف الاستجابة لانتظارات المواطنين..
عودة إلى السّؤال المطروح، المسألة تتعلق بدرجة أولى بالمسؤولية السياسية للنّخب السياسية التي تسير المدن المغربية، سواء كانت نخبا منتخبة، أو نخبا مُعينة. لقد تعود الرأي العام الوطني على سياسة ردود الأفعال، وعلى التّدخلات المناسباتية من أجل معالجة الإختلالات المجالية. نعيش اليوم تراجع منسوب الثّقة في مدبّري الشأن المحلي والوطني.
لكن، ما الكلفة التّنموية لهذا الجفاء وهذا السّلوك داخل المجتمع والتي تضر أيضا بصورة المغرب وسمعته؟.
وراء هذه الإختلالات هناك هدر مسار بلد في التنمية، وضياع حقوق أفراد، وتضرر سمعة وطن في الخارج. إدارة تشتغل بمنطق الولاء، الخدمة، الخضوع والطّاعة والإذعان...الحاصل، نحن أمام ممارسة إدارية تقليدية في العمق، حديثة في المظهر، أو لنقل، الإدارة المغربية تتألف من طابقين، طابق علوي يُمثّل روح الغرب وحداثته، وطابق سفلي يمثل التقليد والقواعد المرعية في التسيير. جُلّ التقارير الدولية التي تعنى بمؤشرات الحكامة وتخليق الحياة العمومية والنّجاعة الإدارية والرّشوة تصفع المغرب دوما أمام المنتظم الدّولي.
النتيجة، تباعد علاقة السلطة والمجتمع، وغرس قيم الإنتهازية وضياع الحقوق الإدارية وسيادة الفساد الإداري...يجب أن نقرأ بعض السلوكيات في المشهد الحضري من رمي الأزبال، وضعف الإنخراط في التنمية، وإتلاف وتخريب التّجهيزات العمومية والمناطق الخضراء والحدائق العمومية...
تجليات لهذا الجفاء. يُعرِّف المختصون في علم التهيئة المدينة بكونها فضاء لخلق الثروات وتوزيعها بشكل عادل. فوفقا لآخر الإحصاءات تشير إلى أن 540 ألف أسرة مغربية لا تزال تقطن بمساكن عشوائية و 100 ألف تقطن في مساكن آيلة للسقوط، و 230 ألف تقطن بدور الصفيح “الموقع الرسمي لوزارة السكنى وسياسة المدينة“. كما أن معدل البطالة ارتفع في الوسط الحضري حيث انتقل من 10 بالمئة إلى 14,5 بالمئة ويتركز في صفوف الشباب المتراوحة أعمارهم ما بين 15 و24 سنة، ولدى حاملي الشهادات 16,8 بالمئة... وحدها الأرقام تنهض دليلا على فشل التدبير الإداري.
هل نحن بحاجة اليوم وغدا إلى ثورة جديدة للملك والشّعب ضد فساد الإدارة حتى تقوم هذه الأخيرة بما يلزم؟
مفهوم الثورة ينطوي على إحداث التغيير؛ الإنتقال من وضع غير مرغوب فيه، إلى وضع جديد ينهض بشروط المواطنة ويضمن الحقوق لكافة المرتفقين من دون أي وساطات أو تدخلات بشرية. عمليا، الثورة تقتضي الوعي الفردي والجماعي بضرورة إحداث التغيير، وبالقطع مع السلوكات الإدارية التي تحيل على العهد البائد.
لدا، وجب الاشتغال على مستويين في هذا الصّدد: تعزيز الثقافة الحقوقية لدى الأفراد مع تغيير عقلية الإدارة المغربية، واعتماد إدارة القرب التي تعمد إلى تبسيط المساطر القانونية وشرحها للمواطنين. صحيح أن التمدد الحضري عامل من عوامل إعادة إنتاج الحلول الفردية على حساب التنظيم الحضري الرسمي العام مثلما يقول الجغرافي مصطفى شويكي في كتابة “المغرب في مواجهة التّحدّي الحضري: أيّ سياسة للمدينة؟“. لهذا يجب رد الاعتبار للمرفق الإداري وتعزيز تنافسيّته والرفع من جاذبيته الإدارية وجعله فضاء لبناء التماسك والتضامن الاجتماعي. من هنا نقترح أن يرتكز التدبير الإداري على ثلاثة مبادئ موجهة: التنافسية، والإستمرارية، والإندماج. والقصد من ذلك، تحقيق فعالية إدارية تستجيب لإنتظارات المرتفقين، مع القدرة على قياس نجاعة التخطيط الإداري وفق مؤشرات دقيقة، وجعل الإدارة فضاء لخلق التنمية وتسريع وتيرتها ولتحسين ظروف عيش المواطنين.
وما المطلوب لأن يكون هذا التّصالح بين الإدارة المغربيّة والمواطن حتّى ينفع البلاد والعباد ويحقّق الأثر والتنمية على الشعب؟.
مسألة المصالحة تستدعي العمل على هدم وبناء المرفق الإداري، وعملية الهدم والبناء تقتضي إحداث ثورة جذرية على السّلوك والمظاهر الإدارية البيروقراطية. يتوجب على التدبير الإداري الجديد أن يعمد إلى تصحيح الإختلالات وأن يعيد إدماج المرتفقين من أجل تلبية حاجياتهم التي تهم خمس أولويات كبرى: السّكن، والنّقل، والصّحة، والشغل، والتكوين...في سياق ذلك، وجب الإعتراف بدون مركب نقص بالأخطاء المرتكبة والتّصالح معها، والإيمان بأن إصلاح المرفق الإداري يمر وجوبا من التشريع إلى الأجرأة في الميدان من خلال صياغة استراتيجيات ترابية تشاركية تدمج الفاعلين العموميين والخواص والمجتمع المدني من جهة، وتكثيف جهود المتدخلين من أجل حكامة إدارية تنهل من مبادئ وقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان وتستلهم بعض التّجارب الإدارية النّاجحة في التدبير الإداري من جهة موازية. على كل تدبير إداري أن يتميز بالإبداع والتحضر، وأن يغرس قيم الإنتماء والهوية، وأن يعكس طموح الدولة في الإنتقال الإقتصادي. على الإدارة المغربية أن تحمي حقوق الملكية وأن تسهر على تفعيل التشريعات القانونية وخلق الديناميات التنموية وصيانة الحقوق السياسية والإقتصادية والثقافية. باختصار، إدارة الإنصاف وتكافؤ الفرص التي تحمي الحقوق وتشجع كفاءات “الدياسبورا المغربية” على العودة إلى المغرب من أجل المساهمة في تنمية بلدهم تنمية حقيقية.