لن تُعدم وأنت تتجوّل في شوارع مدينة كوبنهاغن أو تكدح فيها لبلوغ هدف من أهدافك، ملاقاةَ الكلاب.. أحجام متفاوتة وأشكال مختلفة، منها ما عظُم وحَقُر وما ثقُل وخفّ، منها الجميل الجذّاب المؤنس والقبيح المنفّر الموحش، منها ما عليك يُقبِل ويرحّب ويبصبص وما يتجاهلك وعنك يُدبِر، منها ما هو كاسٍ وما هو عارٍ، وقد اُتّخِذت جميعها للزّينة أو لمساعدة كبار السّنّ على المشي وتخفيف سطــوة الوحدة عنهم في أرض قلّت فيها العناية بالكبار، حتّى رأينا باقات الورود تنوب عن الأبناء في مواكب تشييع جنائز آبائهم وأمهاتهم!..
تستوقفك سطوتُها الغريبة على ملّاكها وكيف تبسـط عليهم أياديها وتنفّذ فيهم أحكامها، فهي التي تفرض نسق السّير وتختار اتّجاه المسير. تتوقّف متى شاءت وتتراجع لفحص ما تريد إذا ما نفسُها إلى الفحص مالت وتاقت.
تحسب أنّ الطّريق مِلكُها فتستغلّ زواياه.. فيها تتبوّل وتتغوّط غير عابئة بمارّة قد يكون منهم حسّاسٌ ضعيفٌ ذو قلبٍ واهٍ، يبادر ملّاكُها إلى لبس القفّازات المعدّة للغرض، فيأخذون بها في مشهد مقزّز تلك العَذِراتِ، ويضعونها في أكياس بلاستيكيّة ثمّ يخبّؤونها في محافظهم كي يلقوا بها - إذا ما وجدوا - في سلّة المهملات.
قد يجول بك الخاطر ويتفلسف حتّى يحدّثك بمدنيّة المشهد المقزِّز، فإنّهم يرفعون فضلات كلابهم محافظة على نظافة مدينتهم والمحيط، وإنّهم إن لم يفعلوا قُذِّر الطّريق فكنت ممّن به يضيق. قد لا يفعلون ذلك رغبة ولكنّهم يفعلونه تطبيقا لقانون يحـــــدّد شروط امتلاك الكلاب والتّعامل معها.
وقد يسيح بك الخاطر حتّى يُنزلك مُكرَهًا في بلادك المصدر، حيث الكلاب العُقُرُ السّائبة.
تلك التي ارتفع نباحُها فأثارت صخبا في المكان حتّى أذهبت صفاء محيطنا، وكشّرت عن أنيابها حتّى انتزعت منّا أمننا وتكدّست في الزّوايا تعدّ علينا أنفاسنا... إذا غبنا عن أنظارها تنازعت وتناهشت، وإذا اقتربنا منها توحّدت واتّحدت فانتهشتنا وتناصرت!..
تدقّق في سلوك الكلاب تقارن أولئك الذين عندنا بهذه، فلا تتردّد في تقريب وتبجيل هذه الكلاب، فهي وإن أصيبت بالعجمة خير من أولئك الكلاب... فإنّها وإن قست في أحكامها على ملّاكها، تظلّ رقيقة لم تبلغ سطوة أولئك الكلاب!..
كلاب ديارنا متخلّفة قد قست قلوبُهم، لا يحترمون أسيادهم الذين أطلقوهم باختيارهم في البلاد... لا يجالسونهم، لا يقربونهم، لا يتجوّلون معهم، لا يساعدون كبارهم على المشي، بل لا يؤانسونهم في وحدتهم كما تفعل في هذه الدّيار الكلاب!..
لا تقبل كلاب ديارنا أبدا بما يحدّ من حرّيتهم أو يلزمهم حدودهم، يرفضون بشدّة وجود المقاود في رقابهم رغم رخاوة مقاودهم، ورغم ضرورةٍ تدفع النّاس إلى وضع المقاود في رقاب كلابهم. كلاب بلادنا لا يمهلوننا إذا ما قذّروا كي نلبس القفّازات لرفع عَذِراتِهم.
قد تتمشّي الكلاب في الغرب بأهلها لتسعدهم وتنمّي فيهم الأمل في الحياة، وقد يمشي في بلادنـــــا الكلابُ علينا، ينتزعــــون كرامتنــا ويستلّــون منّا الرّغبة في الحياة.
قد يمازح الكلاب في الغرب ملّاكهم فيجلسون على كراسيهم وحول طاولاتهم بل وعلى طاولات أكلهم ويتبسّطون دون اعتداء مع أطفالهم، ويجلس كلابنا في بلادنا على كراسينا وفوق الجماجم متجاهلين وجودنا، غير عابئين بقِيَمِنا، لا يهتمّون بنا ولا ينزلوننا منازلنا. سفل كلابنا وانحطّوا حتّى فقدنا القدرة على المقارنة بيننا وبين الغرب، وبينهم وبين الكلاب!..