خصص الاعلامي الزميل عبدالاله التهاني حلقة جديدة من البرنامج الأدبي والفكري"مدارات"، لاستعراض ملامح من سيرة وكتابات العالم الموسوعي المغربي المرحوم محمد ابن المؤقت المراكشي، اعتبر في مستهلها أن الرجل يعد من أبرز وأشهر علماء المغرب في النصف الأول من القرن العشرين، وأكثرهم غزارة في التأليف، حيث وضع رصيدا ضخما من الكتب في الفقه والتاريخ والتصوف ، والتفسير والحديث والسيرة النبوية،، وفي التوقيت وعلم الفلك والجغرافيا.
■ الولد سر أبيه :
وأشار معد ومقدم البرنامج إلى أن مترجمي الأعلام، قد اختلفوا حول تاريخ ميلاده، لكن المرجح أنه ولد عام 1894 في حاضرة مراكش وبها توفي سنة 1949.
كما أشار إلى أن والده محمد بن عبد الله المؤقت المتوفى عام 1911، كان فقيها بارزا بين علماء عصره ، معروفا بصلاحه وإتقانه علم التوقيت، مما أهله ليكون قائما بشؤون التوقيت في جامع ابن يوسف ، وهو أكبر مؤسسة دينية وعلمية في مدينة مراكش.
كما أورد في سياق متصل بأن ابن المؤقت، كان قد خصص لوالده تأليفا سماه "إظهار المحامد في التعريف بمولانا الوالد"، وهذا الكتاب هو إعتراف بفضل والده في تنشئته وتكوينه وتوجيهه ، حيث أخذ عنه أسرار مبادئ التوقيت وعلم الفلك.
كما أخذ علوم اللغة والفقه والتفسير والحديث ، على يد كبار شيوخ المغرب في تلك الوقت ، مما أهله ليخلف والده في القيام بشؤون التوقيت في الجامع اليوسفي بمراكش.
■ سيرة النبوغ المبكر :
يرى معد ومقدم البرنامج "مدارات "، أن ابن المؤقت قد أظهر نبوغا مبكرا في كل ما تلقاه ودرسه ، وأنه في العام 1925 سيسافر إلى بلاد مصر ، التي مكث بها حتى العام 1927، حيث التقى شيوخها وعلمائها كمحمد رشيد رضا، وتعرف على تيارات الحركة الفكرية السائدة في مصر ، خلال الربع الأول من القرن العشرين، فجذبته أفكار محمد عبده النهضوية.
ولعل رحلته إلى مصر ، قد أفادته كثيرا، في التعرف هناك على عالم الطباعة والنشر الذي كان يهتم به كثيرا، مما ضمن له أن يصبح أكثر علماء المغرب طبعا لكتبه في القاهرة .
■معارك ابن المؤقت ضد الطرقية :
وأبرز عبدالاله التهاني أن ابن المؤقت كان يركز على الإصلاح الاجتماعي والديني، وعلى نقد ما كان يراه من سلبيات واختلالات وانحرافات في السلوك المجتمعي، خلال الفترة التي عاش فيها.
وأوضح بأن هذا الاهتمام قد غلب عليه كثيرا ، حتى أصبح
لا يصدر كتابا في موضوع من المواضيع العلمية،، إلا ويدرجه ضمن رؤيته الإصلاحية، ذات الخلفية الدينية والأخلاقية.
وأضاف بأن هذا الإيقاع قد ازداد في كتاباته، منذ ابتعاده عن منهج الصوفية ، وتموقعه ضمن خط فكري صارم،، في مواجهة طوائف الطرقية وبعض فرق الصوفية، حيث لم يتردد في الرد على أقطابها وأتباعها بقوة، مما أدخله في صراعات وسجالات اتسمت بالحدة والتوتر أحيانا ، سواء من طرفه أو من طرف مُسَاجِلِيهِ ، وخاصة منهم العالم وقاضي سطات أحمد سكيرج، والفقيه الصوفي أحمد بن الصديق الغماري.
■ سؤال الاصلاح الديني والمجتمعي :
وأكد عبدالاله التهاني في حديثه أن ابن المؤقت ركز كثيرا على قضية الإصلاح الديني، وعلى تقويم وتصحيح السلوك الاجتماعي، وخاصة في بعده الأخلاقي . كما أنه ربط ذلك بنقده الشديد للطرقية وأتباعها ، كما هو واضح في عدد من تآليفه ، ككتابه "الرحلة المراكشية أو مرآة المساوئ الوقتية" وككتابه "سبيل التحقيق في كشف الغطاء عن مساوئ أهل
كل طريق" ، إذ اعتبر ابن المؤقت أن طوائف الطرقية وقتها ، كانت تأتي بسلوكيات تتعارض مع حقيقة العقيدة الإسلامية.
واستحضر الزميل عبد الإله التهاني ، ما ذكره الباحث في التراث الأدبي والعلمي والحضاري للمغرب الدكتور حسن جلاب، بخصوص الجو الفكري والمجتمعي العام الذي ساد، خلال الفترة التي عاش فيها
ابن المؤقت، وكيف دفعه ذلك الجو إلى الاهتمام بتصحيح العديد من السلوكيات الاجتماعية ، وبعض الممارسات التي كانت تتم باسم الدين ، دون أن يكون لها بنظره ، سند في الشرع.
وفي هذا الصدد، أورد عبدالاله التهاني ، ما أشار إليه الباحث الدكتور حسن جلاب في نفس السياق ، حين ذكر أن "المخاضات التي شهدها الربع الأول من القرن العشرين، كانت عبارة عن صراعات اجتماعية حادة وخطيرة بين التقليد والتجدي، وبين التطور والمحافظة، وبين العمل الوطني والخيانة وعملاء الاستعمار، وبين العلماء السلفيين وشيوخ الزوايا، وأن ابن المؤقت حمل راية الإصلاح "، في ظل هذا الوضع .
■ وقفته ضد اصطياد الدنيا بشبكة الدين :
واستشهد الزميل عبدالاله التهاني بما كتبه ابن المؤقت ، في سياق مواجهته الفكرية مع دعاة الطرقية في زمانه ، حيث قال في كتابه "الرحلة المراكشية أو مرآة المساوئ الوقتية" :
(وما هذه الطوائف الوقتية إلا تلوينات عرجاء بل أفاعي رقطاء، ابتكرتها مخيلة شيطانية. ومهما أردت التفاهم مع أحدهم والتعرف على شخصيته، وما تنطوي عليه من الأماني والرغبات، وقمت تبحث عنه في ميادين جهاده وساحات حروبه ونضاله، وقعت على أعمال تأباها شريعة خير المرسلين) .
وأورد مقتطفا آخر لابن المؤقت في نفس الكتاب ، يقول فيه :
(لا جدال في أن كثيرين من هذه الطوائف ، جناة على الأمة الإسلامية، إما بجهلهم وجمودهم وإما بتلاعبهم بالشرع ، ومحاولتهم اصطياد الدنيا بشبكة الدين ، وإذا قرعهم الإنسان بما جاء من الكتاب أو السنة، أطلقوا فيه ألسنتهم بالسب، بل ربما كفروه أو فسقوه ، أو رموه بكل شنيعة).
ويخلص ابن الموقت إلى القول :
(الجهل الذي عليه طوائف هذا الزمان ، جهل هائل لا دواء له ، إلا التعليم والإرشاد.
ولولا أن هذه الطوائف توقفت ، إلى أن تتربى تربية الكتاب والسنة وتتأدب بآدابها، لاستراحت مما هي فيه من إثم وفساد ، ومما تعانيه من شرور وموبقات).
وفي نفس المعنى تقريبا أورد الاعلامي عبدالاله التهاني ، مقتطفا لابن الموقت في كتابه "الكشف والتبيان عن حال أهل الزمان" ، يظهر فيه انتقاده اللاذع للطرقية وسلوكاتهم ، إذ يقول: (المتشبث اليوم بذيل هؤلاء المدعين ، كالساقط في هوة الهلاك مع الهالكين، فالحذر الحذر من هؤلاء المتمشيخة في الوقت، وهذا شيء شاهدناه ـ يقول ابن المؤقت ـ وأمر تحققناه، وليس من رأى كمن سمع، فالواجب على المسلم الغيور على دينه، ألا يقتضي اليوم إلا بصالح السلف، أو بمن تحققت عدالته في الخلق).
■ الذخيرة الضخمة من مؤلفات ابن المؤقت :
ويشير عبدالاله التهاني إلى أن العالم والمؤرخ ابن المؤقت المراكشي، كان له أيضا إسهام في توثيق بعض أحداث التاريخ ووقائعه وسير رجاله، وأنه خلف في هذا الباب ، مؤلفات لا تقل قيمة من الناحية العلمية،
على ما كتبه في مجالات أخرى من المعرفة، حيث ذكر من تآليفه في هذا الباب، كتبه التالية: "المشرب العذب في ذكر ملوك الشرق والغرب" وقد نشر في مصر سنة 1925 ، حيث صدر ضمن مطبوعات مطبعة مصطفى الباب الحلبي في القاهرة، وهو يتضمن اختصارا لتاريخ عدد من ملوك الشرق والغرب، إذ وثق فيه تاريخ ميلاد هذا الملك أو داك، وتاريخ بيعته وما قام به من أعمال ، وما ميز عهده من منجزات.
كما ألف كتابا آخر بعنوان: "نزهة المالك والمملوك في تراجم مشاهير الملوك" ، وهو بسط لسير الملوك منذ بني أمية في المشرق العربي ، وصولا إلى ملوك الدولة العلوية الشريفة في المغرب.
كما ذكر أنه في نفس المحور التاريخي ، ألف ابن المؤقت كتابه "البحر الزاخر في ذكر ما لملوك الشرق والغرب ومعاصريهم من النوادر والمفاخر"، وكتبا أخرى غير ذلك ، ومنها كتاب "الضياء المنتشر في أعيان القرن الأول إلى الرابع عشر" ، وكتاب "الاستبصار في ذكر حوادث الاعمار".
كما له كتاب في باب الجغرافيا بعنوان: "المعرب عن مشاهر مدن المغرب".
وبخصوص ما ألفه ابن المؤقت في مجال التوقيت وعلم الفلك ، أشار عبد الإله التهاني إلى كتاب له بعنوان "التوقيعات الزراعية والأحكام الرعدية المتعلقة بالشهور العجمية" ، يعرض فيه توقعاته المناخية لشهور السنة الميلادية وخصائص برج كل شهر ، مع تفاصيل عن النظام الغذائي الافيد للإنسان في كل شهر على حدة .
كما أشار إلى كتابه "تاج التقاويم العصرية" ، والذي يعرض فيه ابن المؤقت التقويم المراكشي لأوقات الصلاة.
كما أورد من تآليفه الاخرى ، كتابه المسمى "التوقيعات الفلكية والتعبيرات المنامية" أرج ضمن مجموعه المسمى "تاج التقاويم العصرية".
وذكر عبدالاله التهاني في حديثه ، أنه إذا كان المرحوم المؤرخ المرحوم عبدالعزيز بنعبدالله ، قد وقف فقط على 31 كتابا لابن المؤقت ، فإن الباحث المحقق الدكتور حسن جلاب قد تمكن من إحصاء 83 مؤلفا لابن المؤقت ، صنفها في دراسة قيمة له على شكل مسرد ببليوغرافي ، حيث نسب إليه 41 كتابا مطبوعا، و 39 كتابا مذكورا في مراجع مختلفة، وثلاثة كتب مخطوطة ، علما أن نسبة مهمة من مؤلفاته طبعت بمصر ، ولاسيما بمطبعةمصطفى البابي الحلبي بالقاهرة الذي أصبح صديقا لابن المؤقت، علاوة على كتاب واحد طبع في لبنان، علما أن أول ما صدر لابن المؤقت، هو كتابه "إرشاد أهل السعادة " وذلك عام 1911.
وفي ذات السياق ، استعرض عبدالاله التهاني عناوين من الذخيرة الضخمة لمؤلفات ابن المؤقت، وذلك في كل المجالات التي اهتم بها وكتب فيها ، وذلك على ضوء المسرد الببليوغرافي الذي أعده الدكتور حسن جلاب، والذي أحصى فيه مؤلفات ابن المؤقت، وحصرها في 29 كتابا في باب العقيدة والتصوف والطرق الصوفية، و 11مؤلفا في الدعوات الاصلاحية، و9 كتب في الحديث والسيرة النبوية، و8 كتب في التوقيت وعلم الفلك ، و6 مؤلفات في الفقه وأصوله ، وكتابان في التفسير القرآني ، وكتاب واحد في الادب .
■ إصلاح الحاضر بمرجعية الماضي :
وكأنه يقدم صورة إجمالية لواحد من أشهر علماء المغرب في النصف الاول من القرن العشرين، سجل عبد الإله التهاني أن هذا العالم حمل هموما فكرية ،ناتجة عن طبيعة مرحلة تاريخية مضطربة ،عاشها المغرب بين نهاية القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، مرحلة عرفت بداية اهتزاز البنيات الاجتماعية التقليدية ، وظهور أنماط جديدة من السلوك المجتمعي، لاسيما بعد إقرار معاهدة الحماية ودخول الإدارة الفرنسية الاستعمارية والاسبانية إلى المغرب، وما حملته معها من قيم ومظاهر جديدة في السلوك العام داخل المجتمع المغربي ، وما رافق ذلك من وصول بعض مظاهر النهضة الثقافية العربية الحديثة في مصر والشام إلى المغرب ، كل ذلك بنظر عبدالاله التهاني ، خلق جوا جديدا من الجدل الفكري والديني ، بين أنصار التقليد ودعاة التجديد.
وأضاف قائل: " من الثابت أن رؤية ابن المؤقت ، كانت رؤية إصلاحية غايتها النهوض بالمجتمع وبوعي أفراد الأمة، وتجاوز المظاهر والمعتقدات والسلوكيات الاجتماعية البالية، وخاصة منها تلك المتسمة بالتخلف أو المتلبسة بالشعوذة، لكن نظرة ابن المؤقت ظلت في العمق ، نظرة محافظة تبحث عن التجديد والإصلاح، لكن فقط عبر استرجاع الماضي واستعادته، وكأن ذلك الماضي كان مثاليا ونموذجيا بالكامل،، أو خاليا من الشوائب ، وربما هي نفس الشوائب التي عايشها في وقته، وانتقدها بشدة" .
وخلص عبدالاله التهاني حديثه إلى القول، بأن ابن المؤقت كان عالما موسوعيا غزيز العلم والمعرفة، حيث امتلك ناصية الادب بطاقته اللغوية الفريدة ، وخياله الواسع ، ونفسه الطويل في القدرة على الوصف والتعبير .
كما تعمق في دراسة التاريخ، وأحاط بأصول الفقه ، ونبغ في علوم التفسير والحديث ، وكان مؤهلا ليصنع من نفسه منظرا اجتماعيا ومصلحا وطنيا كبيرا ، لو انخرط في دينامية الفكر السياسي الوطني المتطلع إلى تحقيق الاستقلال في مغرب النصف الاول من القرن العشرين.
ولكن المرء لايختار في النهاية إلا ما كتبت له أقدار الحياة" .