محمد الملالي كان عاملا بسيطا في حفر الآبار ، مواطن بسيط يعيش حياته بشكل عادي في مجال جغرافي وعائلي محدود و معروف. فجاة اصبح نجما يحظى بملايين المتابعات و الكثير من الاعجاب، و النتيجة تغيير شامل: غير اسمه و تنكر لهويته و أصوله و أطلق على نفسه "صاحب احلى ابتسامة ".
الانتقال يكون مدمرا ، حين يكون فجائيا. الفيلسوف اليوناني أفلاطون في نظرية المعرفة المتضمنة في أسطورة الكهف حدد شروط الانتقال الآمن من العتمة الى النور و التوهج ، اي الخروج من الكهف المظلم و الاستمتاع بنور الشمس الساطع يقتضي مسارا متدرجا ، لأن النظرة الفجائية قد تكون سببا في العمى.
التحول السريع و الانتقال الفجائي من عالم محدود إلى فضاءات بلا حدود و ملايين المعجبين ، سيكون سببا أساسيا في انحدار سريع ، وهو الأمر الذي تحقق بضياع ابتسامة محمد الملالي و لم يستطع الحفاظ عليها ، لأنها ليست ابتسامة طبيعية ولدت في سياق طبيعي .
فجأة تراجع منسوب المشاهدة ، و لم يعد التيك توك مصدر ربح سريع و شهرة واسعة، و النتيجة لم تضع الابتسامة وحدها، وانما ضاع محمد الملالي نفسه حين وجد نفسه في طريق لم تكن طريقة ، خرج من الواقع ولم يستطع العودة إليه.
هنا تبرز حقيقة الازمة ، اصبح الشاب تائها ضائعا بين هويتين ،يستحيل استعادة احدهما او الجمع بينهما ، هوية العامل وهوية التيك توكر المشهور .
محمد العامل الملتصق بالارض و الذي يحفر الارض ،و ينفذ الى أعماقها لكي يستخرج الماء لكي يعيش الناس ، و محمد صاحب احلى ابتسامة الذي قرر ان يعيش لنفسه حيث المال و الشهرة لكن فوق اللا – مكان في فضاءات متعالية ،افتراضية لا علاقة لها بالواقع ، و انما بالمتابعات و اللايكات و المعجبين.
بشكل فجائي "صاحب احلى ابتسامة" يتحول الى شخص حاقد و عنيف، غابت الابتسامة وحل محلها العنف و الكراهية السب و الاهانة ، ثم سؤال يطرح اذن مالذي حول الابتسامة الى غضب وكراهية .
ثمة مبدأ في الطب النفسي يقول ان العيادات لا تستقبل المرضى لكن تستقبل ضحاياهم ، وفق هذا التصور فان محمد ليس مذنبا – دون الحديث عن المسؤولية القانونية المؤطرة بالقانون الجنائي - بقدر ماهو ضحية مجتمع، حوله من شخص عادي الى كائن بلا إقامة و بلا عنوان .
محمد الملالي كان يعيش كما يعيش الناس من حوله ، شخص سوي يعمل ،يضحك ، يتألم كما يفعل باقي الناس ،الى شخص احمق حين اصبح مثقفا كبيرا قارئا لتاريخ المغرب يقدم استنتاجاته، و تصوراته و يهين المغاربة و مقدسات المغاربة.
محمد الملالي مشكلته ليست مع ذاته ،و لكن مع مجتمع جعل منه نجما في خمس دقائق والنتيجة انه فقد علاقته بالواقع وتعلق بشبكة لا ترحم لكنها تلتهم و تقتل و تدمر.
الانخراط في الشبكات الافتراضية و الاقامة فيها هو شكل من أشكال بناء الهويات الرخوة و السائلة و التي تحدث عنها كثيرا السوسيولوجي ريجموند باومان.
صناعة الحمقى هو مسلسل مرتبط بنظام شمولي أنتجته العولمة و تحميه العولمة و يعكس التحولات القيمية وهيمنة التفكك القيمي و الاخلاقي، و لعل الموجة الاخيرة لما سمي بروتيني اليومي ، دليل على حجم التحولات الجارية و القائمة بسبب العولمة.
روتيني اليومي عبارة عن حالة من الانهيار الأخلاقي و تكسير الحزام القيمي الجامع للحياء ، و المانع لكل خدش او قلة ادب هو ما يؤشر على ميلاد مرحلة ما بعد الاخلاق .
حين يصبح ادومة، نيبا ، سالي كول، الشيخة طاركس ، التسونامي، ميلود وميلودة، مول المنجل مي نعيمة، مي خدوج، مول احلى ابتسامة، أصحاب الرقية الشرعية و غيرهم هم شخصيات السنة. وأصبح هؤلاء هم الاكثر متابعة ،فالامر يكشف ان التافهين سيطروا على فضاءات التواصل و هو صناع المحتويات .
ولد نظام التفاهة حين تخلت الدولة عن دورها كشرطي للفضاء العام و كحارس للقيم المجتمعية و حمايتها من التلاشي و التأكل لان مهمة الدولة كضامن للسيادة لا يعني فقط حماية الحدود لكن حماية ثرات الاجداد و هوية المجتمع .
بناء مواطنة صلبة ينبغي ان يكون منطق اشتغال لكل المؤسسات المهتمة بالتنشئة والتربية من أجل المشاركة في صياغة قرار مجهود جماعي يجعل من النشء حاملا لقيمه ،و لقيم وطنه ، متفاعلا مع خصوصية عصره ،وهو إنجاز لا يتحقق الا بمجهود جماعي تنخرط فيه الاسرة و المدرسة اولا و بشكل قاعدي .
ان الاوان ان نعيد للمدرس صوته الذي سرق منه، و ان نعيد للاب رمزيته و للجد وقاره و للشرطي قوته ، من اجل ان نرى مواطنينا يستعيدون الروح القتالية لمواجهة إشكالات الحياة بدل الهروب الى عالم المخدرات و العوالم الافتراضية التي تمنح لذة سهلة لكنها لذة مكلفة ؟
أعتقد معالجة هذه الاعطاب هو مقاومة ثقافية تضمن للمواطن الاقامة الفعلية بالواقع و ليس الفرار منه .