الخميس 18 إبريل 2024
مجتمع

محمد ملياني: الجامعات والتحرش الجنسي والرقم الأخضر

محمد ملياني: الجامعات والتحرش الجنسي والرقم الأخضر محمد ملياني
تناسلت المواقف والكتابات مؤخرا في موضوع إحداث الجامعات لرقم أخضر كوسيلة لمواجهة التحرش الجنسي، كان المستهدف الأول فيه هو الأستاذ الجامعي. وظاهرة التحرش هذه لم تبدأ ولن تنتهي مع الرقم الأخضر، وهي ظاهرة تعرفها كل الأماكن في الجامعة وفي غير الجامعة (الشوارع، والإدارات العمومية أو شبه العمومية، والمقاولات، وقاعات الرياضة...) وقد طفت على السطح لأن الاعلام "انقض" عليها ليجعل منها مادة دسمة.
وقد اتخذ رد فعل بعض أساتذة الجامعة طابعا "علميا" تارة وطابعا "نقابيا" تارة أخرى، سندهما في ذلك المقتضيات القانونية. وهناك من أطنب في الاستناد على تلك المقتضيات فاستحضر الدستور والقانون الجنائي والمسطرة الجنائية، في عمل أقل ما يمكن القول معه إنه محاولة لـ "تدجين" القانون في مادة لا تحتمل ذلك، وهي المادة الجنائية. بل أكثر من ذلك ورد في ما كتب، وعلى سبيل المثال، إن النيابة العامة تمثل "السلطة القضائية" وطلبة كليات القانون يعرفون بأن النيابة العامة تمثل "المجتمع" وليس "السلطة القضائية" وبأنها أصبحت تكون في المغرب جهازا مستقلا، وشتان بين الأمرين. 
اعتمد من خاض في موضوع "الرقم الأخضر" والتحرش الجنسي في الجامعات على مجموعة من الفصول القانونية، من الدستور (الفصول 23 و107 و117)؛ ومن القانون الجنائي (الفصل 503 -1-2-3)؛ ومن المسطرة الجنائية (الفصول 19 و 20 و21 و 39 و40 و49)، وكل ذلك بدون طائل كما سنبين ذلك من خلال:
 
التعريف بالوافد الجديد المسمى "الرقم الأخضر" (أولا)
استحضار المقتضيات القانونية المستشهد بها وإظهار أوجه الخلل في توظيفها (ثانيا)
صلاحية الجامعة لإحداث "رقم أخضر" في موضوع التحرش الجنسي أو في غيره (ثالثا).
المسطرة لإحداث "الرقم الأخضر" من طرف الجامعة وكيفية تنظيمها لاستعماله (رابعا).
لنخلص إلى خاتمة في الموضوع:
أولا - التعريف بالـ "الرقم الأخضر"  
بدون الدخول في التفاصيل المرتبطة بما يسمى "الرقم الأخضر"، في جوانبه التقنية وتكلفته المالية ومزايا اختياره كبديل للرقم الهاتفي العادي، يمكن أن نلخص تميز هذا الرقم عن غيره في كونه مجانيا، بالنسبة للمنادي، مما يشجع على استعماله.
وهذه الميزة الأساسية هي التي تحفز على توظيفه من طرف فئات واسعة ولأغراض مختلفة (المقاولات مثلا لجذب الزبائن؛ والهيئات المختلفة، كل حسب الهدف الذي يتوخاه كالدفاع عن المرأة أو الطفل أو أي فئة يحتاج وضعها لمؤازرة أو دعم زائد...).

ثانيا - أوجه الخلل في استحضار وتوظيف المقتضيات القانونية المستشهد بها 
جرى الاستشهاد للطعن في قانونية اعتماد "رقم أخضر" من طرف الجامعات في موضوع التحرش الجنسي على مجموعة من الفصول ومنها الفصول 23 و107 و117 من الدستور. ينص الفصل 23 على مجموعة من الضمانات للأفراد، منها قرينة البراءة. وينص الفصل 107 على استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. ويحدد الفصل 117 دور القاضي في حماية حقوق "الأشخاص والجماعات" (كان حريا كتابة "الأفراد والجماعات" وليس "الأشخاص") وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون. وهي كلها مقتضيات عامة لا يتعارض معها مبدئيا إحداث "رقم أخضر"، ومن ثم عدم جدوى الاستشهاد بها.
أما الفصول 1- 503  و1-1-503 و 2-1-503 من القانون الجنائي فهي في قانون الموضوع تجرم وتحدد عقوبة فعل التحرش الجنسي، ولا تفيد لا من قريب ولا من بعيد في موضوع "الرقم الأخضر" وعلاقة ذلك بالتحرش الجنسي؛ ومن ثم عدم ملاءمة الاستشهاد بها.
إلا إن الأمر قد يكون مختلفا بالنسبة لما استشهد به من قانون المسطرة الجنائية، وهي الفصول 19 و20 و21. لكنه بتفحصها نجد أنها تتعلق بضباط الشرطة القضائية وتحدد اختصاصاتهم، وهي مواضيع لا تقدم ولا تؤخر في شيء بالنسبة لـ "الرقم الأخضر".
أما الفصول 39 و 40 و49 من قانون المسطرة الجنائية فيتعلق الأولان منها بوكيل الملك، ويتعلق الثالث بالوكيل العام للملك، وكلاهما يتلقيان، كل حسب اختصاصاته، الشكايات والوشايات والمحاضر الموجهة إليهما ويتخذان بشأنها ما يريانه ملائما من الإجراءات. ومن المعلوم إن جهاز النيابة العامة جهاز قضائي، وهو كما سبق جهاز مستقل حدد له قانون المسطرة الجنائية الوسائل التي تصل من خلالها إلى علمه الجرائم المفترض ارتكابها، وهو على إثر ذلك يتخذ في شأنها ما يراه مناسبا. وتتمثل هذه الوسائل في الشكاية التي يتقدم بها الشخص المرتكبة في حقه جريمة (الشكاية)، أو في ما يبلغ به أو يوشي به أي شخص ولو لم ترتكب في حقه جريمة (الوشاية)، أو ما يحرره من يخولهم القانون إنجاز المحاضر (المحاضر).

وانطلاقا من هذا، فهل إن الجامعة من خلال إحداثها لـ "الرقم الأخضر" في موضوع التحرش الجنسي تتجاوز حدود اختصاصاتها وتتطاول على اختصاصات النيابة العامة (ليس السلطة القضائية)؟
ثالثا - صلاحية الجامعة لإحداث "رقم أخضر" في موضوع التحرش الجنسي أو في غيره
الجامعات في القانون المنظم لها (القانون 00-01 المتعلق بتنظيم التعليم العالي) مؤسسات عمومية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري، مع خضوعها لوصاية الدولة (المادة 4 من القانون).
يخول هذا القانون مهمة الإدارة لمجلس الجامعة (المادة 9) الذي يتمتع بجميع السلطات والصلاحيات اللازمة لتلك الإدارة، ومن مهامه اتخاذ جميع التدابير الرامية إلى حسن التسيير بالجامعة (المادة 11).
ويخول نفس القانون مهمة التسيير لرئيس الجامعة (المادة 15) الذي يتولى تحضير قرارات المجلس وتنفيذها ويسهر على احترام النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل والنظام الداخلي داخل الحرم الجامعي ويجوز له اتخاذ جميع التدابير التي تستلزمها الظروف طبقا للتشريع الجاري به العمل (المادة 16).
وبما أن الطلبة يتواجدون داخل الجامعة في مؤسسات جامعية، نجد إن القانون 00-01 ألقى على عاتق أجهزة إدارة وتسيير هذه المؤسسات مسؤوليات جسيمة، لكنها تنحصر في حدود المؤسسات التي يتولون إدارتها وتسييرها. ونجد هنا أيضا بأن الإدارة تخول لمجلس المؤسسة والتسيير لرئيسها (المادة 20). ويتداول مجلس المؤسسة في جميع المسائل المتعلقة بمهام المؤسسة وحسن سيرها ويتخذ جميع الإجراءات الرامية إلى تحسين سير المؤسسة (المادة 22). أما رئيس المؤسسة فيسهر تحت إشراف رئيس الجامعة على احترام النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، ويجوز له أن يأخذ جميع التدابير التي تستلزمها الظروف طبقا للتشريع الجاري به العمل (المادة 21).
انطلاقا من الصلاحيات والاختصاصات التي يخولها كل قانون لكل طرف (ما يخوله قانون المسطرة الجنائية للنيابة العامة وما يخوله القانون 00-01 لكل من مجلس الجامعة ورئيس الجامعة ومجلس المؤسسة ورئيس المؤسسة) فما العمل عند حدوث أي خلل يؤثر على السير "الحسن" للجامعة؟
لا شك في أن في التحرش الجنسي إخلال بالسير "الحسن" للمؤسسات الجامعية وللجامعة بأكملها، نظرا لتكامل مكوناتها ولتداخل اختصاصات تلك المكونات وارتباطها ببعضها البعض. فمن شأنه أن يخل أولا بالأخلاق و"بمبادئ العقيدة الإسلامية وقيمها"، كما عبرت عن ذلك المادة 1 من القانون 00-01. وفيه إخلال بالقوانين الجاري بها العمل المنظمة للتحصيل والاستحقاق وتكافؤ الفرص بين الطلاب من الجنسين. بل أكثر من ذلك فهو يشكل جريمة يعاقب عليها القانون. فهل مع كل هذا يجب أن نعتبر بأنه لا دخل للجامعة فيما يجري داخل أسوارها وأنه، والحالة هذه، يمكنها أن تتصرف كمن لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم، وتترك الظاهرة تستشري كما هو حاصل، بدون أن يشكل ذلك إخلالا بواجباتها. 
الجامعة في هذه الحالة مطالبة باتخاذ "كل التدابير التي تستلزمها الظروف" بصريح القانون المنظم لها إذ يمكنها، وبدون حاجة لترخيص من أي جهة خارجية، فتح مكتب لتلقي الشكايات وجمع المعلومات حول ما يحدث داخل أسوارها، سواء تعلق الأمر بالتحرش الجنسي أو بغيره مما يخل بالسير الحسن لمرافقها؛ أو تخصيص رقم هاتفي عاد؛ أو مع ظهور هذه الإمكانية الجديدة، اعتماد ما يسمى بـ "الرقم الأخضر".
 
لكن كيف يمكن تدبير هذا الرقم بما ينسجم مع القوانين الجاري بها العمل؟
رابعا - المسطرة لإحداث "الرقم الأخضر" من طرف الجامعة وكيفية تنظيمها لاستعماله
إذا كان الحصول على "رقم أخضر" أمر ميسر ومتاح لكل راغب فيه (الجامعة وغير الجامعة، إذ يكفي لطالبه التعاقد بشأنه مع الوكالة التجارية التي توفر الخدمة) فإن تدبيره وتوظيفه في موضوع التحرش الجنسي داخل الجامعة موضوع آخر.
لذلك ونظرا لأهمية الإجراء ونظرا لتوزع المسؤولية داخل الجامعة فإننا نستبعد إحداث هذا الرقم من طرف المؤسسات الجامعية كل واحدة على حدة، وذلك حتى من باب ترشيد النفقات. أما على مستوى الجامعة فنعتقد بأن هذا الإجراء ليس من النوع الذي يمكن أن ينفرد به رئيس الجامعة لأن مهمة الرئيس هي التسيير، وإذا كانت المادة 16 من القانون 00-01 تسمح للرئيس باتخاذ جميع التدابير التي تستلزمها "الظروف"، طبقا للتشريع الجاري به العمل، فإن ظاهرة التحرش الجنسي داخل الجامعة ليست ظرفية حتى نعتبر بأن التعامل معها بإحداث "رقم أخضر" يدخل ضمن اختصاصات الرئيس بمفرده.
ومن ثم فإن الجهة المخولة قانونا لاتخاذ قرار بشأن الرقم الأخضر تكون هي مجلس الجامعة الذي يتوفر على صلاحية الإدارة، والذي يضمن في تشكيلته تمثيليات، ولو إنها غير متكافئة، للإدارة والأساتيذ والموظفين والطلاب والقطاع الاقتصادي والاجتماعي.
أما تدبير هذا الرقم فيجب أن يتم تقنينه في إطار القانون الداخلي للجامعة، لأن الموضوع يحتاج إلى تقنين.
 
فــــي الخـتــــــــام
إحداث "رقم أخضر" من طرف الجامعة لمواجهة التحرش الجنسي داخلها أو لمواجهة أي خلل آخر يدخل ضمن الإجراءات التي هي من صميم اختصاصاتها، ولا دخل ولا رقابة فيه لغيرها. والقانون المنظم للجامعة عندما يحدد مسؤوليات المسؤولين فيها، وما يجب عليهم أن يتخذوه من تدابير، فإنه لا يشترط فيهم ضمان السير العادي فحسب، بل السير "الحسن"، ولا شك في أن في التحرش الجنسي إخلال حتى بالسير العادي. وإذا كانت الجامعة تتوفر على مساطر تأديبية وإدارية خاصة بها، فإنها قد تدخل في علاقة مع النيابة العامة بمناسبة تفعيل المسطرة الزجرية العقابية؛ وهي علاقة تحددها قوانين وضوابط، إذ إن للنيابة العامة اختصاصات يحددها القانون ولا يمكن لأية جهة أن تتطاول عليها كما إنه لا يمكن لهذه النيابة، بحكم تلك الاختصاصات، أن تتطاول على اختصاصات غيرها.

وعند القيام بعملية توليف بين اختصاصات النيابة العامة واختصاصات الجامعة (كما سبق تفصيلها) في موضوع "الرقم الأخضر" وعلاقته بالتحرش الجنسي، فإنه وفي حالة وقوع حالة للتحرش الجنسي (وهي عديدة حتى لا نخادع) فنحن نعلم بأن التبليغ للنيابة العامة يمكن أن يتم من طرف ضحية الفعل الذي يكون عليه أن يتقدم بشكاية، أو على أساس محضر ينجزه من له الاختصاص كما يحدد ذلك القانون، وفي الأخير، على أساس الوشاية "la dénonciation"، وهذا هو الإجراء الذي يمكن أن تقوم به الجامعة. ويعرف من لهم علاقة بالميدان بأن الوشاية من الأساليب المتعمدة والمعتمدة في قانون المسطرة الجنائية لمواجهة الإجرام، وهي تقوم على فكرة أن كل واحد داخل المجتمع يجب عليه أن ينخرط في تلك المواجهة، بالتبليغ عما يصل إلى علمه. بل أكثر من ذلك فإنه، ومن أجل الحث على التبليغ، يشكل "عدم التبليغ" عن الجرائم بحد ذاته جريمة (الفصل 209 و299 من القانون الجنائي مثلا، ويوجب التبليغ ببعض الجرائم الفصلان 42 و43 من قانون المسطرة الجنائية). وإذا كان التبليغ عن الجرائم متاحا لأي كان، فبالأحرى بالنسبة للجامعة عما يتم داخل أسوارها، وكيف يتيسر لها ذلك إذا لم تكن تتوفر على وسيلة لمعرفة ما يجري بداخلها؟ ومع تطور وسائل الاتصال فإن "الرقم الأخضر" يعد مجرد واحدة من هذه الوسائل. 

على ضوء ما كتب وما تم التعبير عنه من مواقف ذهبت إلى الإفتاء بعدم شرعية "الرقم الأخضر"، في علاقته بالتحرش الجنسي داخل الجامعة، فإننا نكون أمام فرضيتين. فرضية عدم الإلمام الكافي بالقانون، في أحسن الأحوال، وهي مسألة عادية يشفع لصاحبها حسن نيته. وفرضية النصب على القانون، في أسوأ الأحوال، بتحميله ما لا يحتمل. وبما إن فعل النصب فعل إرادي فإنه لا يمكن أن ينم إلا عن سوء نية، والأستاذ الجامعي منزه عن ذلك مبدئيا. لكن الأخطر هو عندما يكون الهدف من هذا النوع من الإفتاء محاولة قطع الطريق على كل مبادرة تهدف إلى محاربة مختلف أوجه الاختلال داخل الجامعة، ومنها التحرش الجنسي، بغرض إبقاء الحال على ما هو عليه؛ مما يجر معه الزيادة في الانحدار نحو الأسفل، وهذا مما يجب التصدي له من طرف كل من له غيرة على الجامعة، ولو من خارجها.
 
محمد ملياني/ أستاذ متقاعد من جامعة محمد الأول