السبت 9 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

السفير عبد القادر زاوي: المغرب في إفريقيا.. أصالة الانتماء وشراكة النماء

السفير عبد القادر زاوي: المغرب في إفريقيا.. أصالة الانتماء وشراكة النماء

بدأ جلالة الملك جولة إفريقية جديدة تقوده إلى عدد من عواصم غرب القارة السمراء تكريسا لتقليد تأسس في السنوات الأخيرة قوامه تفعيل وتكثيف التواصل في سياق علاقات جنوب ـ جنوب واستكشاف الفرص المتاحة للاستفادة المتبادلة على كافة الأصعدة لاسيما التجارية والاستثمارية من دون إغفال الأبعاد الأخرى على اعتبار أن الدول الإفريقية جنوب الصحراء شكلت عبر التاريخ مجالا للنفوذ المغربي سياسيا وروحيا. مجال لم تؤثر فيه كل محاولات إحداث شرخ بين المغرب وامتداده الطبيعي حيث تتمدد جذور شجرته الوارفة الظلال.

ورغم الإحباط الذي خلفته لدى المغاربة تلك القطيعة التي حدثت مؤقتا إثر اضطرار المغرب إلى الانسحاب من منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1984، فإن الرباط سرعان ما أدركت سلبية المقعد الفارغ وعدم جدوى إعطاء الظهر للقارة السمراء، فانبرت تعوض ذلك الانسحاب بتكثيف العلاقات الثنائية مع معظم دول القارة موسعة شبكة تمثيلها الدبلوماسي، عاملة على إيجاد صيغ أخرى لتعاون إفريقي متعدد الأطراف كما حصل عندما استضافت مؤتمرا للصيد البحري على مستوى الدول الإفريقية المطلة على المحيط الطلسي سنة 1988، وما أبانت عنه من ديناميكية في تفعيل مجموعة الساحل والصحراء (س.ص) بعد تأسيسها.

وقد كان جليا أن تلك الخطوات اعتبرت دليلا على انتماء إفريقي أصيل للمغرب، وإبرازا لعناصر قوته الناعمة إفريقيا، وتأكيدا لتوجه مبدئي راسخ برز باكرا عندما استضاف المغرب سنة 1958 مجموعة الدار البيضاء، التي كانت نواة تأسيس منظمة الوحدة افريقية سنة 1963، وتكرس فعلا بإنشاء وزارة متخصصة بالعلاقات مع دول وشعوب القارة السمراء المستقلة حديثا في مطلع الستينات أو تلك التي كانت في أوج نضالها التحرري، موفرا لها دعما ماديا ودبلوماسيا كبيرا. وليس صدفة أبدا أن تسند تلك الوزارة في حينه لمناضل وطني بارز هو المرحوم عبد الخالق الطريس.

ولم يكن ممكنا أن تظل أصالة الانتماء الإفريقي حبيسة تحركات سياسية ودبلوماسية تجري بين الفينة والأخرى، لهذا كان المغرب حريصا على أن يعكس هذه الإرادة المبدئية والمصيرية في مختلف دساتيره منذ أولها سنة 1962، متوجا ذلك بما ورد في دستور 2011 الذي حمل في ديباجته التزاما صارما بالعمل على تقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الإفريقية، ولا سيما مع بلدان الساحل وجنوب الصحراء.

وإذا كان المغرب على وعي تام بصعوبة تغيير موقف الاتحاد الإفريقي من قضية وحدته الترابية كي يعود إلى موقعه الطبيعي بسبب تعقد المساطر والإجراءات، فإنه على العكس من ذلك تماما أدرك مبكرا أن لديه فرصا سانحة للمساهمة في نمو القارة، التي تضم معظم الاقتصادات الأكثر نموا في العالم مطلع القرن 21 ، وكسب تعاطف الشعوب الإفريقية إلى جانبه من خلال شراكات اقتصادية واستثمارية وتعليمية وثقافية ودينية مربحة للطرفين.

يأتي هذا الإدراك المبكر في وقت بدأت القارة الإفريقية وإمكانياتها تسيل لعاب المستثمرين العالميين الكبار، لاسيما وأن عددا من دولها بفضل الاستقرار السياسي ووضوح خط المسار الديمقراطي وتوافد الاستثمار الأجنبي بدأ يسجل ابتداء من أواسط الحقبة الأولى من هذا القرن نسب نمو مرتفعة، لدرجة أنه لأول مرة تجاوزت معدلات الاستثمار الخارجي في إفريقيا جنوب الصحراء معدل المعونات والمساعدات الدولية الممنوحة عادة لدولها.

وبهذا الشكل من التواصل الرسمي والشعبي المعزز بأرقام اقتصادية وتجارية واستثمارية مشجعة يكرس المغرب حقيقة مفادها أن القارة السمراء قد نضجت وباتت تحتاج إلى الشراكة لا الوصاية، مخاطبا شعوبها بلغة المستقبل وليس بأشجان الماضي، مقدما نماذج تعاون تستفيد منها تلك الشعوب في معيشتها اليومية افتتحها مبكرا سنة 2000 بإلغاء ديون في ذمة عدد من الدول الإفريقية الأقل نموا وإعفاء منتجاتها المصدرة إلى السوق المغربية من الرسوم الجمركية، ناهيك عن مواصلة استقبال الطلبة الأفارقة في الجامعات والمعاهد المغربية حيث باتوا يمثلون أزيد من 70% من الطلبة الأجانب بالمغرب.

وينبع الاهتمام المغربي بالتواصل مع عمقه الإفريقي من القناعة بأن التنمية الداخلية للبلاد مرتبطة بشكل وثيق بتنمية امتداده الطبيعي والجغرافي. وسيصل هذا الاهتمام إلى الذروة باقتراح نموذج مبتكر وأصيل للتنمية كما جاء في الكلمة التي ألقاها جلالة الملك أثناء افتتاح المنتدى الاقتصادي المغربي الإيفواري في فبراير 2014 بأبيدجان.

يرتكز هذا النموذج على تعزيز الاستفادة المتبادلة من الخبرات الفنية وتوسيع مجالات التعاون التجاري والاستثماري وتكثيف التواصل الإنساني، هادفا إلى أن يكون القرن 21 قرن انتصار الأفارقة على آفات التخلف والفقر والإقصاء بعد أن كان القرن الماضي قرن التحرر من الاستعمار، وذلك حتى لا يغدو التطلع إلى قارة سمراء نشطة ومتطورة ليس مجرد حلم فقط.

وعلى غرار الحضور الاقتصادي والتجاري للمغرب في إفريقيا الذي بات جليا تترجمه أرقام ذات دلالة من قبيل أن الاستثمارات المغربية حاليا بالقارة تتجاوز مبلغ 400 مليون دولار، وأن أزيد من ثلث القروض الاستثمارية الممنوحة في دول غرب أفريقيا مصدرها أبناك مغربية تتوسع تدريجيا هنالك، فإن الحضور السياسي والروحي لم تعد تخطئه العين، كما يتضح من خلال الانخراط في إيجاد تسويات سياسية لعدد من القضايا الإفريقية الشائكة في سيراليون ومالي، ومن خلال التزام أخلاقي وعملي لتحصين القارة من خطر الجماعات الجهادية الإرهابية، ونشر مبادئ الإسلام السمحة عبر تأمين تكوين ديني سليم لأئمة من عدد من الدول الإفريقية كمالي وغينيا وتونس.

إن هذا الالتزام الراسخ، الذي لا تفوت الرباط أي فرصة للتعبير عنه بالعمل من أجل توفير الدعم الكامل لخيارات التعاون جنوب ـ جنوب على الصعيد الثنائي أو في إطار التعاون الثلاثي انطلاقا من علاقاتها المتميزة مع العديد من الدول المانحة، ينبع من توجه استراتيجي قار ومتين للمغرب نحو القارة السمراء.

ورغم أن الإستراتيجية المغربية تبعث من وراء ما تقوم به من تحركات برسالة مفادها الحرص على أن تجعل من تكثيف التعاون وتنويعه مع كل من السنغال والكوت ديفوار والغابون لأسباب تاريخية وجيواستراتيجية مشوبة بروابط عاطفية أيضا منصة ثابتة للانطلاق نحو محطات أخرى، وعامل جذب لآخرين قد يريدون الاستفادة المتبادلة مع المغرب؛ فإن عددا من المراقبين يرون ذلك غير كاف على الإطلاق، لأنه يظل قاصرا على منطقة جغرافية محدودة غرب القارة، ولا يسعى لاستغلال الإمكانيات المتوفرة واقتحام الفرص الواعدة في جهات أخرى لاسيما في بعض دول إفريقيا غير الفرنكوفونية، ما يتطلب مضاعفة الجهود ومزيدا من الانفتاح على عموم القارة.

ولعل هذا المعطى حضر بقوة في ذهن المتابعين للجولة الملكية الذين سجلوا باستغراب ولكن بتقدير أنها ضمت لأول مرة دولة تتحدث باللغة البرتغالية (غينيا بيساو) في زيارة رسمية لها جاءت ولا شك تتويجا لاتصالات متعددة سابقة ومؤشرا على وجود رغبة وإرادة في الانفتاح على عوالم القارة السمراء دون استثناء.

صحيح أن هنالك عوائق سياسية ونفسية كثيرة تقف حائلا، خاصة مع الدول التي أبانت عن عداء صريح للوحدة الترابية للمغرب، ولم تدخر أي جهد في الإساءة إليه، ولكن المواقف في السياسة الدولية غير ثابتة على الإطلاق، فعدو اليوم قد يغدو أفضل صديق غدا والعكس صحيح. ومن غير المقبول أن يبدأ الانفتاح على دول كهذه على أعلى مستوى.

إن زيارات رؤساء الدول والقادة في الأعراف الدبلوماسية تتوج عادة مسارات متعددة من التواصل الحكومي وبين الفاعلين الاقتصاديين وغيرهم من المؤسسات الوطنية. ولهذا فإن الانفتاح على المزيد من دول القارة ينبغي أن تخوض مجاله في المقام الأول المكونات الحكومية ورجال الأعمال ساعية إلى استكشاف آفاق للتعاون مع دول أخرى وهي آفاق عديدة ومربحة للطرفين سيما مع الاقتصاديات الكبرى في القارة كنيجيريا وجنوب إفريقيا أو تلك الأكثر نموا وجاذبية للاستثمارات الأجنبية كأنغولا وكينيا وبوتسوانا على سبيل المثال، ومستغلة أي أحداث تساعد على ذلك بما فيها الملتقيات الفنية والرياضية.

ألم يتم استغلال مباراة في كرة الطاولة لفتح قناة اتصال بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في بداية السبعينات من القرن الماضي؟ أليس ممكنا الانفتاح أكثر على العهد الجديد في نيجيريا لاسيما وأنه تلقى بارتياح الخطوة المغربية في عدم الاتصال مع الرئيس السابق خشية استغلاله في الحملة الانتخابية؟ ألا نشاطر هذا العهد الجديد في نيجيريا نفس التخوف وإن بنسب متفاوتة من توسع الفكر التكفيري لبوكو حرام في غرب إفريقيا حيث الإشعاع الروحي والديني للمغرب ما يزال حاضرا بقوة؟

تساؤلات كثيرة تطرح في هذا السياق تتطلب تفكيرا إستراتيجيا تجند له كل الطاقات ويسترشد عند الاقتضاء بتجارب دولية سابقة سجلت ناجحا لافتا في القارة السمراء. فإذا كان صعبا للغاية مجاراة التجربة الصينية في إفريقيا نظرا لضخامة استثماراتها هناك، فإن للمغرب القدرة على الاستئناس بالتجربة التركية وتوظيف العلاقات المتميزة مع أنقرة للاطلاع عليها وتبادل الخبرات معها.