الأحد 6 أكتوبر 2024
كتاب الرأي

منعم وحتي: موسم الهجرة إلى الشمال

منعم وحتي: موسم الهجرة إلى الشمال

إن المشاهد اليومية، المُؤلمة، لابتلاع البحر لمئات مُضْطَهَدِي الضفة الجنوبية من حوض البحر الأبيض المُتوسط، والذين يتشكلون في الغالب من النساء والشباب، خصوصا مع سُعَار حكومات شمال الحوض وتهديدها بقصف مواقع انطلاق الهجرة، تٌحِيلُنا إلى الدراسة التاريخية، لمرحلة زاهية من رخاء التبادل بين أطراف حوض المتوسط، فترة تعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، إبان حُكْمِ الفينيقيين لموانئ المتوسط.

فَلْيَعْلَم الكولونياليون الجُدُد لأوربا، أن الفينيقيين بنوا حضارة بالحوض المتوسط، بفتح علاقات تبادُل مُتكافئة مع سكان الموانئ ومُدُنها، على قاعدة الوُدِّ والربح المتبادل، ما مَكّنهم من تشييد حضارة تجارية، سهلت مُرور البضائع وتقاليد المَدنية لِمُدُنِ المُتوسط، فكانت الزيوت والخمور والحبوب والعسل والتوابل والحِلِيِّ،.... تَجٌول بِحٌرية بين المٌدنِ، رائدو الجُغرافية والملاحة والزخرفة بامتياز، بل لقد أعطوا الاستقلالية لدُويلات الحوض لتُدبر أمورها، بدون خلق دولة مركزية ضاغطة، فقد كان التسيير محليا، ولم يَنْزَعٌوا إلى الغريزة الاستعمارية، مما أعطى غِناً و تنوعاً حضاريا للفترة الفينيقية، حيث كان السكان المحليون طرفا مهما في العملية التجارية، إلى درجة أن الديانة المعتمدة كانت بنفس درجة التنوع الحضاري، فقد اعتنقوا ديانة ثلاثية مبنية على المرأة، الشاب والعجوز، اختلاطا بين القوة، الخصب والحِكْمَة، فلماذا تَلْفَظ أوروبا شبابنا و نساءنا.

فَما بال حُكام شمال الضفة ينتهجون سياسة استعمارية جديدة، أمام شباب ونساء مُحْبَطين، يَئِسوا من فساد واستبداد دُوَلهم، بل يحاولون الفرار من لعنة الحروب المُدبرة من طرف تجار سلاح الشمال، فلا حبوب ولا زيوت، فهم يشعلون النار حماية لمصالحهم حول آبار البترول. تعازينا طرابلس كُنتِ منارة الفينيقيين، حضارة وتجارة، صِرْتِ خرابا مُدبرا بين أنياب الناتو وهمجية عصبية الداخل، فكيف لا يصير بطن الحوت ملاذا آمنا والموت وراءنا.

لقد وصل حجم تأثير الفينيقيين، إلى أن الحروف الأبجدية السَّهْلَة التي يَسَّرَتْ علاقاتهم مع الشعوب، كانت المصدر الأساس لكتابة اللغات: اللاتينية، اليونانية والعربية، أما ساسة أوروبا فاختاروا مَسْلك قَصْفنا، استغلالنا واستعمارنا في إطار شعاراتهم البراقة حول العلاقات شمال ـ جنوب، أليس التبادُلُ المتكافئ والتنمية الحقيقية مَدخلا للحل. وحتى نبقى في إطار تقييم الذات أيضا، فليعلم حُكَّام دول الهامش بالبحر الأبيض المُتوسط، أن الإحصائيات تؤكد أن نسبة متدنية جدا من مُحاولات الهجرة للشمال، سُجِّلت إبان اندلاع انتفاضات الربيع العربي، لأن الشعوب أحست بإمكانية التغيير من الداخل، فتشبث الشباب والنساء بالبقاء في بلدانهم للمُساهمة في الحراك العام، لكن بعد مُؤامرات الداخل والخارج، أكيد أن جو الإحباط العام بعد تمركز سلطة الاستبداد في نفس الأيدي، وإجهاض البناء الديمقراطي، والحروب الطاحنة، سيؤدي لا محالة إلى ارتفاع مُهول لموجات الهروب إلى شمال الحوض. ورغم ذلك فحُكومتنا وحكامهم في انسجام تام لاغتيال أي هُبوب لرياح الديمقراطية، قد يُضِيعٌ مصالحهم.

ملحوظة لها علاقة بما سبق:

نحتاج فعلا إلى قراءة جماعية لرواية الكاتب السوداني الطيب صالح "موسم الهجرة للشمال".

لقد عمل الإغريق والرومان على محو الذاكرة الحضارية للفينيقيين، فهل تستطيع الكولونيالية الأوروبية محو ذاكرتنا.