تتمدّد الحياة اليوم فوق أرض رقمية لا حدود لها، تتقاطع فيها اليوميات البسيطة مع كمّ هائل من الصور والرسائل والبيانات. في هذا الفضاء المفتوح، صار الإنسان مكشوفًا أكثر مما يظن، ومحميًّا أقل مما يحتاج. وتتسارع المنصات بخطى لا تلحق بها التشريعات، فتتشكل معضلة دقيقة: كيف يمكن صون الكرامة الرقمية دون خنق الكلمة؟ وكيف يمكن منع التشهير والابتزاز والتضليل، من غير تحويل الرأي المخالف إلى شبهة، والانتقاد إلى جريمة؟ عند هذه النقطة بالذات، يبدأ النقاش الحقيقي حول الحرية الرقمية.
أسس الحرية الرقمية
المنطلق الأول بسيط في جوهره: ما يُعدّ جزءًا من حياة الإنسان الخاصة في الواقع المادي، يجب أن ينال الحماية نفسها عندما ينتقل إلى الشاشات. هذا المبدأ لم يبقَ حبيس النقاش الفقهي، بل وجد سندًا في النص الدستوري الذي يقرّ حق الأفراد في حماية حياتهم الخاصة وسرية مراسلاتهم واتصالاتهم بمختلف أشكالها، ولا يسمح بالمساس بها إلا وفق ضوابط قانونية محددة.
وعلى مستوى القانون الجنائي، جاءت التعديلات التي أُدخلت بموجب القانون رقم 103-13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء لتضيف الفصول 447-1 إلى 447-3، فجرّمت أفعالًا من قبيل التقاط أو تسجيل أو نشر صور أو أقوال أو معطيات ذات طابع خاص أو سري، أو صور أشخاص في أماكن خاصة، دون موافقتهم، وباستعمال أي وسيلة، بما فيها الوسائط الرقمية. كما شددت العقوبة في حال استغلال علاقة قرابة أو زواج أو سلطة، أو عندما يستهدف الفعل نساء أو قاصرين.
هذه المقتضيات شكلت خطوة مهمة في حماية الحياة الخاصة، خصوصًا في مواجهة ظواهر الابتزاز الرقمي و”تسريب” الصور والمقاطع الخاصة، لكنها تظل مركزة على ما يمسّ الخصوصية مباشرة، تاركة مساحة واسعة من الأذى الرقمي خارج دائرة التجريم.
مثال توضيحي:
عندما يُعيد شخص نشر مقطع مصوَّر داخل بيت أو فضاء مغلق دون رضا أصحابه، فإن الفصول 447-1 وما بعدها تسعفه في المطالبة بالمتابعة، لأن الأمر يتعلق بمكان خاص ومعطيات ذات طبيعة حميمية أو سرية.
عندما يُعيد شخص نشر مقطع مصوَّر داخل بيت أو فضاء مغلق دون رضا أصحابه، فإن الفصول 447-1 وما بعدها تسعفه في المطالبة بالمتابعة، لأن الأمر يتعلق بمكان خاص ومعطيات ذات طبيعة حميمية أو سرية.
لكن إذا نشر شخص تدوينة يتهم فيها موظفًا أو تاجرًا بالرشوة أو النصب دون أي دليل، وبأسلوب قد يدمّر سمعته المهنية، فإن الملاحقة تصبح أكثر تعقيدًا، لأن الضرر هنا يطال السمعة العامة أكثر مما يطال “الحياة الخاصة” بمعناها الضيق.