Sunday 2 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

محمد العمارتي: التزامات إسرائيل تجاه منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها في الأرض الفلسطينية المحتلة في ضوء الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية (22 أكتوبر 2025).. هزيمة أخرى لإسرائيل أمام القضاء الدولي

محمد العمارتي: التزامات إسرائيل تجاه منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها في الأرض الفلسطينية المحتلة في ضوء الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية (22 أكتوبر 2025).. هزيمة أخرى لإسرائيل أمام القضاء الدولي محمد العمارتي

أصدرت محكمة العدل الدولية في 22 أكتوبر 2025، باعتبارها وفقا للمادة 92 من الميثاق الأممي الهيئة القضائية الرئيسية لمنظمة الأمم المتحدة رأيها الاستشاري الذي كانت قد طلبته منها الجمعية العامة في 19 دجنبر 2024 " بشأن التزامات إسرائيل المتعلقة بوجود وأنشطة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى والدول (الثالثة) الأخرى في الأرض الفلسطينية المحتلة وفيما يتعلق بها". وسعيا إلى توضيح بعض الابعاد القانونية والامتدادات القضائية الدولية للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، ومساعدة القراء والمتتبعين غير المتخصصين بالضرورة، على إدراك تفاعلاتها وآثارها المحتملة على مسار القضية الفلسطينية، ارتأينا التطرق في هذا المقال للعناصر المهمة والرئيسية للرأي الاستشاري للمحكمة. وتفرض علينا الأمانة بداية ،التنبيه الى أننا لا ندعي قدرة الإحاطة الشاملة والوافية بمجموع العناصر القانونية التفصيلية والحيثيات " التقنية والإجرائية الدقيقة" التي أثارها الرأي الاستشاري للمحكمة ، و التعليق عليه وفقا للضوابط والأصول الأكاديمية المتبعة في هذا المجال ، ولعل ما يشفع لنا في ترجيح التركيز والاختزال ولاقتصار على الملامح العامة ، غزارة العناصر والقضايا القانونية التي يتناولها الرأي الاستشاري بالتحليل الدقيق والوافي وضرورات التفاعل السريع معها ، بالإضافة الى النص الطويل للرأي ( 71 صفحة) و صدوره قبل أيام قليلة فقط، مما يستلزم التوفر على الوقت الكافي لقراءته المتأنية و المعمقة ، فضلا عن عدم ملائمة المقام والحيز المخصص لهذا المقال للخوض في قضايا قانونية نظرية وإشكالات مفاهيمية و مسائل مسطرية لا تستأثر باهتمام القارئ ، لأن المقام الأنسب لطرحها وتحليلها والتعليق عليها وإبداء الملاحظات عليها هو الدوريات المتخصصة.

أولا – في سياق وموجبات تقديم طلب الرأي الاستشاري من المحكمة

يجدر التذكير أولا، أن جوهر الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في 22 أكتوبر 2025 يتركز على المنع الذي فرضته إسرائيل على أنشطة " وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى" المعروفة اختصارا وإعلاميا بوكالة "غوث " اللاجئين الفلسطينيين أو "الأونروا"UNRWA ، ويثير الرأي أيضا الالتزامات الأخرى لإسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة ، حيث يعتبر هذا الرأي الأخير امتدادا واستكمالا للاجتهاد الذي اعتمدته وطورته المحكمة في الرأيين الاستشاريين السابقين الذين أصدرتهما بشأن " الجدار الفاصل في الضفة الغربية" (9 يوليوز 2004) وفي 19 يوليوز 2024 بشأن " التبعات القانونية لسياسات وممارسات إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية " إذ أنه يؤكد بشبه إجماع لقضاة المحكمة الالتزامات الدولية التي تقع على عاتق إسرائيل باعتبارها قوة احتلال تجاه وجود وأنشطة منظمة الأمم المتحدة والمنظمات والدول الأخرى في الأرض الفلسطينية المحتلة و في علاقة بها .

وبالرجوع إلى ظروف ودوافع وملابسات تقديم الجمعية العامة لطلب رأي استشاري قانوني من محكمة العدل الدولية ، يتبين أنه في غمرة الكارثة الإنسانية الأليمة التي كانت تهدد سكان قطاع غزة بفعل الحصار الإسرائيلي المفروض عليها ، ومنع وصول وتقديم المساعدات الإنسانية الضرورية لعيش السكان ، وجّه الأمين العام للأمم المتحدة رسالة في 28 أكتوبر 2024 الى رئيس الجمعية العامة للفت نظرها على سبيل الاستعجال لإصدار الحكومة الإسرائيلية لعدد من القوانين واتخاذها مجموعة من التدابير ا لتي من شأنها منع وكالة " الأونروا" من مواصلة عملها الأساسي في الأرض الفلسطينية المحتلة ، بما في ذلك القدس الشرقية ،وفقا للولاية التي أسندتها الجمعية العامة الى هذه الوكالة منذ إحداثها في سنة 1949 والتجديد المستمر لهذه الولاية منذ 1950. وتثير الرسالة أيضا، الخلاف القائم بين منظمة الأمم المتحدة من جهة، وإسرائيل بصفتها عضوا في هذه المنظمة من جهة أخرى، حول عدد من النقط القانونية منها تفسير وتطبيق اتفاقية امتيازات الأمم المتحدة وحصاناتها لسنة 1946 التي تعتبر إسرائيل طرفا فيها.

وأخذا بالاعتبار الوضع الإنساني الحرج لسكان غزة والآثار الوخيمة المترتبة عن القوانين والقرارات التنفيذية والتدابير الإدارية الإسرائيلية على تفاقم الأوضاع الإنسانية لسكان قطاع غزة، بعث الأمين العام الى الجمعية العامة رسالة ثانية في نفس الموضوع بتاريخ 9 دجنبر 2024.

وبناء على الرسالتين المستعجلتين، واستنادا على عدد من القرارات ذات الصلة التي أصدرتها سابقا الجمعية العامة ومجلس الأمن، وتأسيسا على التزام جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالوفاء بحسن نية بالالتزامات التي تعهدت بها، ووفقا للمادة 96 من الميثاق الأممي، قررت الجمعية العامة في 19 دجنبر 2024 أن تطلب - على سبيل الأولوية والاستعجال- من محكمة العدل الدولية فتوى طبقا للمادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة.

وعبرت الجمعية العامة في قرار طلب الرأي الاستشاري للمحكمة ( A/ RES /79 / 232 ، 12 دجنبر 2024 ) عن قلقها البالغ إزاء الخطط والتدابير ، بما فيها التشريعات المعتمدة ، التي تتخذها إسرائيل للتشويش على أو لعرقلة وجود وعمليات الأمم المتحدة وكياناتها ومنظماتها ، بما في ذلك وكالة "الأونروا" ، مشيرة الى ميثاق منظمة الأمم المتحدة واتفاقية امتيازات الأمم المتحدة وحصاناتها وغيرها من قواعد القانون الدولي الواجبة التطبيق ، وشدّدت على الحاجة الى قيام منظمة الأمم المتحدة وجميع الكيانات التابعة لها بتنفيذ الولايات المنوطة بها تنفيذا تاما في الأرض الفلسطينية المحتلة ، بما فيها القدس الشرقية ، بعيدا عن أي تشويش أو عرقلة . وذكرت الجمعية العامة بموقف أعضاء مجلس الأمن بشأن وكالة " الأونروا" الذي عبروا فيه عن بالغ قلقهم من التشريع الذي اعتمده الكنيسيت الإسرائيلي، مؤكدين أن هذه الوكالة تظل العمود الفقري لأي استجابة إنسانية في غزة، ولا يمكن لأي وكالة أن تعوض أو تحل محل قدرة الوكالة وولايتها في خدمة اللاجئين والمدنيين الفلسطينيين الذين هم في حاجة ملحة الى المساعدة المنقذة للحياة.

ويتأسس قرار الجمعية العامة المتعلق بطلب الرأي الاستشاري للمحكمة على مجموعة أخرى من المبررات الميدانية والحيثيات القانونية من أبرزها،

طابع الأولوية وأقصى درجات الاستعجال التي يفرضها الوضع ، ووجوب امتثال إسرائيل للقرارات الدولية المتعاقبة التي تفرض عليها عدم حرمان الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير ، بما في ذلك عن طريق إلغاء أي تدابير تعيق تقديم الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية والإنمائية للشعب الفلسطيني ، وعدم إعاقة أو عرقلة عمل الدول الأخرى في الأرض الفلسطينية المحتلة ، ودعوة جميع الأطراف الى تجنب القيام بأعمال من شأنها إضعاف الدور الحاسم الذي تضطلع به الأمم المتحدة في حل النزاعات ، والى دعم المبادرات التي تسهم في التوصل الى تسوية عادلة ودائمة وشاملة لقضية فلسطين ، وفي تحقيق حل الدولتين وفقا لميثاق الأمم المتحدة والقرارات ذات الصلة .

واعتمادا على مجموع هذه العناصر والحيثيات التي حاولنا ايجاز الأهم منها، استندت الجمعية العامة بالأساس على قواعد ومبادئ القانون الدولي، ولاسيما منها المستمدة من ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، والامتيازات والحصانات المعترف بها بموجب القانون الدولي للمنظمات الدولية والدول، والقرارات ذات الصلة الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان، والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية لسنة 2004 ورأيها الثاني الصادر في 2024 ، خاصة أن المحكمة أكدت في الرأيين المذكورين ،واجب أي سلطة قائمة بالاحتلال أن تدير الإقليم المحتل وفق ما فيه المصلحة للسكان المحليين ، كما أكدت أن إسرائيل لا يحق لها السيادة على أي جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة أو ممارسة سلطة سيادية على تلك الأرض بسبب احتلالها إياها ...وعلى هذا الأساس تقدمت الجمعية العامة بطلب رأي المحكمة في السؤال التالي :

" ما هي التزامات إسرائيل ، بصفتها السلطة القائمة بالاحتلال وبصفتها عضوا في الأمم المتحدة ، فيما يتعلق بوجود وأنشطة الأمم المتحدة ، بما يشمل وكالاتها وهيئاتها ، والمنظمات الدولية الأخرى والدول الثالثة ( الأخرى)، في الأرض الفلسطينية المحتلة وفيما يتصل بتلك الأرض ،لأغراض منها ضمان وتيسير الإمداد دون عائق بالمدد الجوهري ببقاء السكان المدنيين الفلسطينيين على قيد الحياة ، وبالخدمات الأساسية والمساعدة الإنسانية والإنمائية ، لما فيه مصلحة السكان المدنيين الفلسطينيين ، ودعما لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير ؟

 

ثانيا – في طبيعة ومصادر وانتهاكات الالتزامات الدولية لإسرائيل باعتبارها قوة احتلال للأرض الفلسطينية

ميزت محكمة العدل الدولية بناء على صيغة السؤال المعروض عليها بين فئتين رئيسيتين من الالتزامات التي تقع على عاتق إسرائيل. وشرعت في النظر أولا في التزامات إسرائيل بصفتها قوة احتلال المتعلقة بوجود وأنشطة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والدول الأخرى في الأرض الفلسطينية المحتلة وفي علاقة بها. ثم تطرقت بعد ذلك الى الالتزامات المفروضة على إسرائيل باعتبارها عضوا في الأمم المتحدة إزاء هذه الكيانات الدولية (الأمم المتحدة ووكالاتها والدول الأخرى).

انطلقت المحكمة من المبدأ المستقر في القانون الدولي بشأن الأقاليم الواقعة تحت الاحتلال، الذي يكرس واجب أي سلطة قائمة بالاحتلال أن تدير الإقليم المحتل وفق ما فيه المصلحة للسكان المحليين، ثم اعتبرت استنادا عليه أن الالتزامات الخاصة لإسرائيل بصفتها تلك ( قوة احتلال) تستمد من قواعد القانون الدولي الإنساني (1) ومن معايير القانون الدولي لحقوق الإنسان (2).

  1. التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي الإنساني

لاحظت المحكمة بهذا الخصوص ان الالتزامات ذات الصلة لإسرائيل تفرضها اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب التي تعتبر إسرائيل طرفا فيها. وتأكيدا من المحكمة لاجتهادها السابق (في 2004 و2024) ، اعتبرت إن هذه الاتفاقية واجبة التطبيق في الأرض الفلسطينية المحتلة، مضيفة ان إسرائيل تقع على عاتقها التزامات أخرى في الأرض الفلسطينية المحتلة بموجب القانون الدولي العرفي.

وقد تصدت المحكمة للرد على رأي أقلية تجادل في الوصف القانوني لوضع إسرائيل "كقوة احتلال" في قطاع غزة ، حيث ذكّرت في هذا الإطار ، أنها قد خلصت في رأيها الاستشاري لسنة 2024 إلى كون إسرائيل بعد سحب وجودها العسكري في قطاع غزة في عام 2005 ، فإنها قد حافظت على قدرتها على ممارسة بعض الصلاحيات الأساسية للسلطة في قطاع غزة ، بل استمرت في ممارستها ، وبان التزاماتها المترتبة عن " قانون الاحتلال" ظلت متناسبة مع درجة مراقبتها الفعلية لقطاع غزة ( مراقبة الحدود البرية والبحرية والجوية ، فرض القيود على حرية تنقل الأشخاص والسلع ، فرض الرسوم على الاستيراد والتصدير و المراقبة العسكرية المفروضة على المنطقة العازلة أو الفاصلة ).

واجهت المحكمة أيضا مسألة الدفع بالتخوفات المشروعة لإسرائيل على أمن وسلامة مواطنيها وواجبها في ضمان حمايتهم، واتهام وكالة "الأونروا" بتوظيف وتشغيل عدد كبير من أعضاء حركة حماس ومن منظمات "إرهابية". ولاحظت المحكمة في ردّها بانها واعية بالانشغالات الأمنية لإسرائيل، غير أنها تذكر بأن بعض أحكام اتفاقية جنيف الرابعة والقواعد الأخرى للقانون الدولي العرفي، إذا كانت تجيز لقوة الاحتلال مراعاة الاعتبارات الأمنية والضرورة العسكرية، فإن مصالحها المتصلة بحماية الأمن، لا تعتبر بأي حال مبررا استثنائيا مستقلا يرخص لها عدم التقيد بقواعد القانون الدولي الإنساني الواجبة التطبيق. وأكدت المحكمة في هذا الصدد، أن أي تقييد لإسرائيل لالتزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني على أساس انشغالاتها المتعلقة بالمجال الأمني، من اللازم أن يجد مصدره وأساسه في قاعدة خاصة من اتفاقية جنيف الرابعة. وأثارت المحكمة الانتباه إلى أن الدول حينما تتخذ التدابير التي تفرضها مكافحة الإرهاب، فإنها تظل ملزمة بالحرص على تطابق هذه التدابير وتلاؤمها مع معايير القانون الدولي، ولاسيما مع التزاماتها باحترام القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ومعززة موقفها (المحكمة) بالإحالة إلى عدد من قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن ذات الصلة.

أثارت المحكمة في نقطة أخرى أحكام وقواعد القانون الدولي الإنساني – وبخاصة منها التي تتعلق بالاحتلال -التي تعتبرها واجبة التطبيق في الحالة المعروضة عليها. وفي هذا الإطار لاحظت ان القانون الدولي العرفي، يفرض على جميع أطراف النزاع المسلح أن تضمن حرية مرور الآمن والسريع للمساعدات الإنسانية الموجهة الى الأشخاص المدنيين الذين يوجدون في حاجة اليها، مع مراعاة إمكانية فرض أطراف النزاع لرقابة محدودة عليها في بعض الاحتمالات المذكورة على سبيل الاستثناء والحصر (المادة 23 من اتفاقية جنيف الرابعة – البروتوكول الأول م 70، ودليل الصليب الأحمر المتعلق بالقانون الدولي الإنساني العرفي ...). وذكّرت المحكمة أيضا، بالالتزامات ذات الطبيعة الخاصة المستمدة من المواد (55 – 56 -59) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تفرض على أطراف النزاع في حالة اعتبارهما قوة احتلال. وتتعلق هذه الالتزامات خاصة بتزويد السكان بالمواد الضرورية للحياة اليومية (الغذاء والماء والعلاجات الطبيبة والدواء والمأوى ...)، والتزام دولة الاحتلال بأن تسمح بعمليات الإسعاف والإغاثة ووصول المؤن الكافية للسكان من طرف هيئات إنسانية غير متحيزة.

وخصصت المحكمة في رأيها الاستشاري تحليلا قانونيا ضافيا للالتزامات التي تفرضها المادة 59 من اتفاقية جنيف الرابعة على إسرائيل باعتبارها قوة احتلال ، حيث عالجت النقطة المتعلقة بالتدهور الخطير للوضع الإنساني لسكان قطاع غزة و الآثار الوخيمة للحصار المضروب عليها ، وفي ضوء العناصر التي اطلعت عليها وأكدتها مختلف التقارير المتوفرة و الموثوقة وذات المصداقية، خلصت إلى أن إسرائيل كقوة احتلال لم تحترم مقتضيات المادة 59 المذكورة ، وبوجوب موافقتها على تسهيل وعدم منع أو عرقلة عمليات الإغاثة الإنسانية والطبية الموجهة الى سكان قطاع غزة.

- التزامات إسرائيل إزاء وكالة " الأونروا"

تذرعت إسرائيل بكونها غير ملزمة كقوة احتلال بالموافقة على أو تسهيل جميع عمليات الإغاثة والإسعاف التي تقوم بها هيئات غير محايدة أو لا تكون أهدافها ذات طابع إنساني حصرا، وطعنت في استقلالية وعدم تحيز وكالة "الأونروا'، وصرّحت بعدم ثقتها في الطابع الإنساني الحصري والمحايد للأنشطة التي تقوم بها في الأرض الفلسطينية المحتلة، الأمر الذي اعتبرته ينزع عن هذه الوكالة طابع الحياد وعدم التحيز ويستبعدها بالتالي من نطاق المنظمات والهيئات المقصودة في اتفاقية جنيف الرابعة (المادة 59).

وبخصوص هذه النقطة، لاحظت المحكمة أن تشكيك وادعاءات إسرائيل لا يسندها أي دليل من الوثائق التي أدلت بها، ولا توجد أي حجة على انتهاك وكالة " الأونروا" لمبدإ الحياد بالمعنى الوارد في المادة 59 من الاتفاقية. وبمعنى آخر ليس ثمة ما يثبت أن " الأونروا" تمارس التمييز لأي سبب كان عند توزيع المساعدات الإنسانية أو تقديم خدماتها لسكان الأرض الفلسطينية المحتلة.

وأما فيما يتعلق بمزاعم إسرائيل واتهامها "الأونروا" بكونها وكالة مخترقة من طرف حركة حماس و"منظمات إرهابية أخرى" وأن العديد من الأشخاص الذين تشغلهم هذه الوكالة شاركوا بشكل فاعل في تنفيذ عمليات السابع من أكتوبر 2023، أجابت المحكمة ان نتائج التحقيق الذي أجراه مكتب الأبحاث والمراقبة الداخلية ( (BSCIالتابع للأمانة العامة للأمم المتحدة في 2024 ، قد أسفرت عن فصل تسعة عناصر من طاقم الوكالة بسبب احتمال مشاركتهم في أحداث 7 أكتوبر . غير أن المحكمة أكدت أن هذه الواقعة المعزولة لا تعتبر في جميع الأحوال كافية لإقامة الدليل القوي و المقنع على أن "الأونروا" في مجموعها ليست وكالة محايدة ، علما أنها تشغل أزيد من 17000 شخصا في الأراضي الفلسطينية المحتلة وحدها، و يبلغ مجموع مستخدميها أكثر من 30000 شخصا .ولاحظت المحكمة أيضا ، أن إسرائيل لم تدل بالحجة والبرهان على أن جزءا مهما من موظفي ومستخدمي وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين هم – حسب ما تدعيه- أعضاء في حماس أو في منظمات إرهابية ، معززة موقفها بالخلاصات والتوصيات الهامة التي توصل اليها التقرير الذي أعدته بتكليف من الأمين العام " كاترين كولونا " (وزيرة خارجية فرنسا سابقا) ، وتم الإعلان عن نتائجه في أبريل 2024 حيث فند التقرير جميع التهم التي ظلت إسرائيل توجهها لوكالة "الأونروا ".

وحرصت المحكمة في هذا السياق تحديدا على أن تذكر في رأيها الاستشاري بالاحتياجات الإنسانية العاجلة لسكان قطاع غزة وبحجمها الكبير، وإبراز العلاقات المتميزة والمتينة التي نسجتها وكالة "الأونروا" مع السكان المحليين منذ أن أسستها الأمم المتحدة في 1949، 18 سنة قبل احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية)، وأصبحت منذ تلك المرحلة المنظمة التابعة للأمم المتحدة التي تتولى بشكل أساسي مهام الإغاثة والمساعدة المقدمة للاجئين للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة والبلدان المجاورة لها. وبالنظر لاندماج هذه الوكالة بشكل قوي ومتواصل في البنية المحلية للأرض الفلسطينية المحتلة، فإنها هي من تستجيب للحاجيات الأساسية للسكان عن طريق تزويدهم بالمؤن الغذائية وبالماء الشروب وتوفير العلاجات الطبية والتمدرس والمأوى، وأحالت المحكمة أيضا الى العديد من قرارات الجمعية العامة وتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة التي تعترف وتكرس الطابع الذي لا غنى عنه لأنشطة هذه الوكالة الأممية ومهامها في حماية ومساعدة اللاجئين الفلسطينيين. وبعد ان ذكرت بموقف الأمين العام الذي اعتبر أنه من غير الواقعي في الوقت الحاضر

تصور أن يحل كيان آخر محل هذه الوكالة وتوفير المساعدة والخدمات للاجئين الفلسطينيين على النحو المطلوب، خلصت إلى انه استنادا الى المادة 59 من اتفاقية جنيف الرابعة، وفي ضوء الظروف والملابسات الخاصة بالحالة التي تنظر فيها المحكمة، فإن إسرائيل ملزمة وفقا للقانون الدولي الإنساني ولمقتضيات اتفاقية الامتيازات والحصانات المعترف بها للأمم المتحدة، بالموافقة وتسهيل عمليات الإغاثة التي تقوم بها الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة التي من بينها " الأونروا".

واستكملت المحكمة في رأيها الاستشاري توضيح وتحديد مجموعة من الالتزامات القانونية الأخرى لإسرائيل باعتبارها دولة احتلال التي يثيرها السؤال المعروض عليها، مستندة في ذلك على الاحكام والبنود ذات الصلة المستمدة من صكوك القانون الدولي الإنساني وتتعلق هذه الالتزامات ب:

- التزامات إسرائيل تجاه المنظمات والدول الأخرى،

- الالتزام بتوفير الحاجيات الأساسية لسكان الأرض الفلسطينية المحتلة،

- الالتزام باحترام وحماية العاملين في مجال الإسعاف والأطقم الطبية وكذا العاملين المحليين معهم،

-حظر النقل الجبري الجماعي او الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم،

- حق الأشخاص المحميين المعتقلين في تلقي زيارة مندوبي اللجنة الدولية للصليب الأحمر،

- حظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب،

 

  1. التزامات قوة الاحتلال بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان

لعنا لسنا في حاجة الى التأكيد أن القانون الدولي لحقوق الانسان يفرض على إسرائيل باعتبارها قوة احتلال احترام وحماية وإعمال الحقوق والحريات الأساسية لسكان الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبالتالي، إن فرض إسرائيل لأي قيود على تقديم المساعدة الإنسانية الضرورية لحياة السكان الفلسطينيين وحفظ كرامتهم يثير مسألة انتهاكاتها لالتزاماتها بمقتضى القانون الدولي لحقوق الإنسان. وأخذا بالاعتبار طبيعة الرأي المطلوب من المحكمة، فقد اقتصرت على النظر في التزامات إسرائيل في مجال حقوق الإنسان التي تتصل بوجود وأنشطة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والدول الأخرى في الأرض الفلسطينية المحتلة وفي علاقة بها. ومن هذا المنطلق، لاحظت المحكمة ان إسرائيل تتحمل التزامات في مجال حقوق الإنسان يوجد مصدرها في الأدوات الاتفاقية الكثيرة التي هي طرف فيها كما تستمد من القانون الدولي العرفي.

أشارت المحكمة في البدء أن إسرائيل تعد دولة طرفا في الاتفاقيات الدولية الرئيسية المتعلقة بحقوق الإنسان (القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري – العهديين الدوليين لسنة 1966 حول الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية – القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة – مناهضة التعذيب وغيره من ضروب العقوبة القاسية أو المعاملات اللاإنسانية أو المهينة – حقوق الطفل – حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة).

في رأيها الاستشاري بشأن التبعات القانونية لسياسات وممارسات إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة (19 يوليوز2024)، جزمت المحكمة أن الأدوات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان تعتبر واجبة التطبيق على أعمال الدولة وتصرفاتها حينما تمارس اختصاصها خارج نطاق إقليمها، وبصورة خاصة في الأراضي المحتلة، وذكرت المحكمة في هذا الرأي أيضا، أن الحماية المكفولة بمقتضى الاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان لا تتوقف في حالة النزاع المسلح أو الاحتلال. وأكدت المحكمة في الرأي الاستشاري نفسه أن إسرائيل تظل ملزمة بتنفيذ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فيما يرجع لأعمالها وتصرفاتها في الأرض الفلسطينية المحتلة، كما هو الشأن بالنسبة لالتزاماتها الأخرى بموجب اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري واتفاقية حقوق الطفل واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية مناهضة التعذيب وحماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. وأعادت المحكمة تأكيدها على مسؤولية إسرائيل كقوة الاحتلال في احترام وحماية وإعمال حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة بما في ذلك اثناء مراحل النزاع، مشدّدة على الدور الحاسم لعمل الأمم المتحدة، ولاسيما من خلال وكالة "الأونروا" والمنظمات الدولية والدول الأخرى التي دعمت والوكالة وساندتها ليصبح تمتع سكان الأرض الفلسطينية المحتلة ببعض الحقوق أمرا ممكنا. وبالنتيجة، ترى المحكمة أن أي تقييد من طرف إسرائيل لقدرة وكالة " الأونروا" والفاعلين الآخرين في ضمان حقوق الإنسان الأساسية للفلسطينيين من شأنه بالضرورة أن يزيد وبنفس الحجم من المسؤوليات والالتزامات الواجبة على إسرائيل في كفالة هذه الحقوق.

ولاحظت المحكمة ان القوانين التي اعتمدتها إسرائيل في 28 أكتوبر ودخلت حيز النفاذ منذ 30 يناير 2025، قد أدت إلى عرقلة مهام وأنشطة وكالة "الأونروا" في الأرض الفلسطينية المحتلة، مذكرة أن نظام الأمم المتحدة المندمج لتصنيف مستويات الأمن الغذائي سجل منذ 12 مايو 2025 أن نصف سكان غزة يواجهون مستوى من تهديد الأمن الغذائي يبلغ حالة الاستعجال القصوى من الدرجة الرابعة، كما أن نصف مليون شخص يصنفون في المستوى الكارثي من المجاعة في الدرجة الخامسة. وقد قامت "الأونروا" بالتنسيق والتعاون مع كيانات أخرى تابعة للأمم المتحدة ليس فقط بتوفير المؤن الغذائية للسكان، ولكن أيضا بتوفير وتدبير النظام التعليمي والصحي في الأرض المحتلة وبخاصة في قطاع غزة. وقد ترتب عن سياسات وممارسات إسرائيل كقوة احتلال حرمان السكان المدنيين من المواد الأساسية لعيشهم اليومي، الأمر الذي يطرح بحدة التزامات إسرائيل كقوة احتلال بإعمال الحقوق الأساسية للسكان في قطاع غزة وفي مجموع الأرض الفلسطينية المحتلة.

وعلاقة بالوضع الإنساني الكارثي لسكان غزة ومسؤوليات إسرائيل عن استمراره وتفاقمه بسبب عدم احترامها لالتزاماتها كقوة احتلال، أولت المحكمة في رأيها الاستشاري عناية خاصة لعدد من الحقوق موضحة مصادرها في الاتفاقية ذات الصلة ،مع استحضارها للتعليقات والملاحظات العامة لبعض لجان المعاهدات وتأويلها لنطاق تطبيق هذه الحقوق. ولأن المجال لا يتسع لتفصيل هذه الشروحات والمرجعيات القانونية الطويلة نكتفي بالإشارة على وجه المثال لا الحصر الى:

الأهمية القصوى التي يكتسيها الحق في الحياة في سياق الرأي المطلوب من المحكمة، والحق في مستوى معيشي كاف يوفر الكساء والغذاء والمأوى، ومنع التعذيب وغيره من ضروب العقوبات القاسية واللاإنسانية والمهينة، والحق في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه، القضاء على التمييز ضد المرأة في ميدان الرعاية الصحية، وحق الأشخاص ذوي الإعاقة في التمتع بأعلى مستويات الصحة دون تمييز على أساس الإعاقة، والحق في التربية والتعليم.

وبالنظر إلى التدهور غير المسبوق للوضع الإنساني لسكان الأرض الفلسطينية المحتلة، اعتبرت المحكمة أن إسرائيل بناء على الالتزامات التي يفرضها عليها القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، تعد باعتبارها قوة احتلال ملزمة بالامتناع عن عرقلة أنشطة منظمة الأمم المتحدة. مضيفة أنه إذا كانت وكالة " الأونروا" قد قامت بدور مركزي بتسهيلها للعمليات الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، فإن التزامات إسرائيل تعتبر واجبة التطبيق بصورة عامة، وهي بذلك تسري على منظمة الأمم المتحدة بالمدلول الواسع وعلى المنظمات والدول الأخرى.

وحرصت المحكمة على إثارة الانتباه في رأيها الاستشاري إلى أن الجمعية العامة لم تطلب منها البت في تحديد "شرعية" أو الآثار والتبعات القانونية لأعمال إسرائيل وإخلالها و تقصيرها ( خلافا لما طلب منها في الرأي الاستشاري لسنة 2024)، لكنها رغم تقيدها الدقيق بعناصر السؤال المعروض عليها ، فإن الاحتراس المنهجي لم يمنعها من التصريح أن سلوك و ممارسات إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة ،يثير قلقا شديدا بموجب الالتزامات التي وضحتها بتفصيل في نص رأيها الاستشاري والتي يفرضها القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان ، مؤكدة ان إسرائيل كقوة احتلال تعتبر ملزمة بالامتثال لها وإعمالها الكامل بحسن نية.

وتطرقت محكمة العدل الدولية في أجزاء أخرى من رأيها الاستشاري لواجبات والتزامات إسرائيل بصفتها عضوا في منظمة الأمم المتحدة، ولاسيما من زاوية تكييف وتحليل المسؤولية الدائمة للأمم المتحدة بشأن القضية الفلسطينية والقضايا والتبعات التي يثيرها هذا الموضوع، وهو ما نقترح توضيحه في جزء لاحق من هذا المقال.

 

محمد العمارتي / أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان (سابقا) بجامعة محمد الأول – وجدة.

02 نونبر 2025