في مطعم صغير بالرباط، على طاولة قريبة مني، كان هناك رجلان يتبادلان أطراف الحديث بهدوء.
ثم جاء ثالثهم، فجلس بينهم، وكأن الطاولة كانت تنتظره ليكتمل لحن الجلسة.
وفجأة، بدأ ينشد بصوت شجيّ إحدى روائع فتح الله لمغاري.
كان صوته لا يشبه أصوات المقاهي ولا ضجيج الشارع، بل كان يشبه ذاكرة بلد بكامله.
ذاكرة تعيدنا إلى زمن الجوق الوطني للموسيقى، حين كانت الرباط والدار البيضاء تتنفسان الإبداع، وحين كان على خشبات المسارح صفّ من العازفين الكبار:
اسميرس يغازل الكمان،
وعمر الطنطاوي يلاعب أوتار العود،
وبن إبراهيم يسكب أنفاسه في الناي،
وصالح الشرقي — سيّد القانون — يكتب بالنغم ما تعجز الكلمات عن قوله.
اسميرس يغازل الكمان،
وعمر الطنطاوي يلاعب أوتار العود،
وبن إبراهيم يسكب أنفاسه في الناي،
وصالح الشرقي — سيّد القانون — يكتب بالنغم ما تعجز الكلمات عن قوله.
ذلك الجوق لم يكن مجرّد مجموعة موسيقية، كان أوركسترا للوطن، يعزف ستينات المغرب وسبعيناته وثمانيناته، ويجعل الأغنية المغربية تاجاً على رؤوس العشاق.
كانت تلك الحقبة مرجعاً لكل من أراد أن يعرف معنى اللحن الصادق والكلمة الشريفة.
وأنا على طاولتي، كأنني ضيف متأخر في حفلة قديمة، سمعت روحي تهمس لي:
"اسأله عن هؤلاء الذين صنعوا الذاكرة الموسيقية المغربية"
"اسأله عن هؤلاء الذين صنعوا الذاكرة الموسيقية المغربية"
فأدرت وجهي إليه وسألته، بعفوية لم أتوقعها من نفسي:
"هل تعرف بعضاً من أولئك العازفين؟"
"هل تعرف بعضاً من أولئك العازفين؟"
ابتسم، وكأنه فتح باباً سرياً في الذاكرة، وقال دون تردّد:
"بالطبع… صالح الشرقي، عازف القانون، ابن مدينة سلا. كنت ألتقيه كثيراً في حي سيد التركي."
"بالطبع… صالح الشرقي، عازف القانون، ابن مدينة سلا. كنت ألتقيه كثيراً في حي سيد التركي."
عندها ارتجف المكان في قلبي.
لقد نطق الرجل أول اسم، وكان اسم والدي رحمه الله.
ذلك العازف الذي ولد سنة 1923 وكان من مؤسسي جوق وطني للموسيقي في بداية الستينات والذي غادرنا سنة 2011، وترك لنا إرثاً من نغم لا يصدأ.
لقد نطق الرجل أول اسم، وكان اسم والدي رحمه الله.
ذلك العازف الذي ولد سنة 1923 وكان من مؤسسي جوق وطني للموسيقي في بداية الستينات والذي غادرنا سنة 2011، وترك لنا إرثاً من نغم لا يصدأ.
يا للصدف…
كأن الرباط أرادت في تلك اللحظة أن تعيدني طفلاً صغيراً أراقب والدي وهو يوقّع بأنامله على أوتار القانون.
كأن الرباط أرادت في تلك اللحظة أن تعيدني طفلاً صغيراً أراقب والدي وهو يوقّع بأنامله على أوتار القانون.
كأن صوت المغني المغربي لمغاري الذي صدح على الطاولة المجاورة لم يكن إلا جسرًا بين الحاضر والماضي.
خرجت من المطعم وأنا أحمل يقيناً جديداً:
أن الموسيقى لا تموت،
وأن أسماء الكبار مثل أبي تبقى معلّقة في هواء المغرب،
كلما عزف أحدهم لحنًا قديماً، عادوا إلينا، مبتسمين، ليقولوا:
"نحن هنا… وما زلنا نعزف انغام مغربية صرفة ."
أن الموسيقى لا تموت،
وأن أسماء الكبار مثل أبي تبقى معلّقة في هواء المغرب،
كلما عزف أحدهم لحنًا قديماً، عادوا إلينا، مبتسمين، ليقولوا:
"نحن هنا… وما زلنا نعزف انغام مغربية صرفة ."